ما لم يَقله ميقاتي

عماد مرمل – الجمهورية

بعد انتهاء الاحتفاء بتشكيل الحكومة وتقبّل التهاني بولادتها القيصرية، طويت صفحة العواطف الجياشة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالتالي حان أوان الجد والتشمير عن الزنود في مواجهة لائحة طويلة من الازمات التي تحتاج لمعالجتها إلى خطة وقدرات وليس الى النثر والشعر.

لمّا كانت الهاوية التي انزلق اليها البلد سحيقة وواسعة، فإنّ اللبنانيين الذين يفتقرون الى الحقوق البديهية ينتظرون الكثير من حكومة ترقّبوها بلهفة وشغف بعدما تأخرت ولادتها اكثر من عام، حتى خُيّل لهم ان مجرد تشكيلها سيفتح أبواب الحل.

لكنّ سقف التوقعات المرتفع وضع حكومة ميقاتي أمام امتحان دقيق، غير مضمون النتائج، لا سيما ان العين بصيرة واليد قصيرة جداً.

وما يزيد من صعوبة الاختبار ان لدى ميقاتي بدايات شعور بالارتياب حيال نيات بعض القوى الداخلية، وهو يتخوف من ان تؤدي حساباتها المتضاربة او التجاذبات المتنقلة بينها الى انعكاسات سلبية على زخم العمل الحكومي وإنتاجيته.

وقد خرج أخيراً أحد زوار ميقاتي من اللقاء معه بانطباع مفاده أنّ الرجل كان مرتاحاً خلال التكليف اكثر مما هو عليه بعد التأليف، اولاً لضخامة المسؤوليات الملقاة على عاتقه خصوصاً ان روما من تحت هي غيرها من فوق، وثانياً بسبب بعض الاحتكاكات في الاسلاك السياسية التي تستجِرّ منها الحكومة طاقة.

وليس خافيا ان ميقاتي ينتظر تسهيلات من السياسيين تُعادل خطورة التحديات التي يتعامل معها، وأساسا ما كان ليقبل بتشكيل الحكومة لو لم يحصل على ضمانات داخلية وخارجية بالتسهيل، والآن اتى أوان صرف «الشيكات» الموجودة في حوزته، وهو يأمل في ان لا يتبيّن ان كلها او بعضها بلا رصيد.

غير ان العلامات التي لاحت من خلف الكواليس وامامها احيانا، لم تكن جميعها مريحة ومشجعة، لا سيما بعدما ظهرت طلائع تباين بين رئيس الجمهورية ميشال عون وميقاتي عند طرح مسألة تشكيل الوفد اللبناني الذي سيفاوض صندوق النقد الدولي. ومع انه جرت معالجة الأمر الا ان من دلالاته ان المياه قد لا تسري دائما بانسياببة بين القصر والسرايا.

ويضاف الى ذلك، «الخلاف المستدام» بين عون والرئيس نبيه بري، والذي تَمظهَر أخيرا حول عقد دورة استثنائية لمجلس النواب، ثم هناك أيضا ما يعتبره البعض «نيّات مُضمرة» لدى اعضاء نادي رؤساء الحكومات السابقين الذين، وإن كانوا لم يعطّلوا علناً تشكيلة ميقاتي، الا انهم في قرارة أنفسهم غير مرتاحين اليها ولا مقتنعين بها، وليس أدلّ على ذلك من غياب الرئيسين سعد الحريري وتمام سلام عن جلسة الثقة، و»إيماءات» الرئيس فؤاد السنيورة.

وعلى رغم التأكيد المتكرر من قبل ميقاتي والحريري بأن علاقتهما جيدة ولا صحة للاقاويل في شأنها، الا ان العارفين يلفتون الى انّ للحريري خصمَين حالياً: الأول فوق الطاولة وهو عون، والثاني تحت الطاولة وهو ميقاتي لاعتبارات تتعلق بالمنافسة على السلطة والزعامة.

ومن العوامل الأخرى التي تدفع ميقاتي الى الارتياب ايضاً، عودة العملة الخضراء الى الصعود بعد انخفاضها بعد التكليف والتشكيل، قبل أن تستأنف ارتفاعها خلال الأيام الأخيرة، ما تسبب في التشويش على انطلاقة الحكومة الجديدة وإظهارها عاجزة حتى عن السيطرة على سعر الصرف، بينما كان يُفترض ان يؤدي وجودها الى ضبطه على الأقل. والاكيد انّ «كمين الدولار» يُحرج ميقاتي وحكومته ويهدد إنجازهما الأول وربما الوحيد حتى الآن، والذي تمثّلَ في انخفاض سعر صرف العملة الصعبة لبعض الوقت.

أمام هذه «الانبعاثات» الأولية وما يمكن أن يليها في المستقبل، يبدو ان ميقاتي المعروف بأنه صاحب نفس طويل وخبير في تدوير الزوايا والخلافات، لن يقبل باستخدامه حَطباً في موقدة المصالح الانتخابية والسياسية، ولن يسمح بأن يكون كبش محرقة للقوى التي تريد أن تصفّي حسابات او ان تلجأ الى الشعبوية لربح الانتخابات على حسابه، كما تؤكد شخصية سياسية على صِلة به.

وبناء عليه، تُحذّر تلك الشخصية من انّ الرجل الذي اشتهر بديبلوماسيته ومرونته حتى اقصى الحدود الى درجة انه قادر على احتواء ألد خصومه وكسب ودهم، قد يضطر في لحظة ما الى استخراج الجانب الخشن والمُستتِر من شخصيته واتخاذ مواقف حاسمة وقاطعة، اذا وجد انّ ذلك ضرورياً لحماية التجربة المتجددة التي يخوضها في السلطة، لا سيما انه يعتبر انّ المهمة التي وافقَ على تأديتها لا تتحمّل القسمة على اثنين، فإمّا ان تنجح ولو بالحد الأدنى المقبول وامّا ان تفشل، وعندها لن تقتصر التبرعات السلبية عليه بل البلد برمّته يكون قد خسر فرصة ثمينة وربما أخيرة لبدء رحلة الإنقاذ.

ولئن كان ميقاتي لم يحسم حتى الآن قراره بالترشح الى الانتخابات النيابية من عدمه، الا ان داعمين له يجدون انه صار ضرورياً ان يعمد الى تطوير موقعه ودوره، وبالتالي الخروج من إطار الزعامة المناطقية ضمن طرابلس الى حدود أوسع، على المستويين السني والوطني، ما يستوجِب بالدرجة الأولى نجاحه كرئيس للحكومة في لجم الانهيار.

والواضح انّ ميقاتي يواجه بشكل اساسي تحدّي صندوقين: صندوق النقد الدولي وصندوق الاقتراع. فإذا تمكّن من التوصّل الى اتفاق مع الأول واجراء الانتخابات في موعدها وبأعلى نسبة ممكنة من النزاهة، يكون هو وحكومته قد نالا علامة فوق المعدّل، من شأنها ان تؤهّله تلقائياً ليصبح المرشح الطبيعي الى رئاسة حكومة ما بعد الانتخابات، لاستكمال ما كان قد بدأه.

Leave A Reply