أزمة أوكرانيا تضرب الشرق الأوسط

جوني منيّر- الجمهورية

بعيداً عن الاسباب المعلنة لانفجار أزمة اوكرانيا وبالتالي تحرك روسيا عسكرياً خارج حدودها، يتبادر الى الأذهان سؤالان اساسيان لا بد من طرحهما. الاول يتعلق بالخلفية الفعلية التي دعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتحريك بيدقه العسكري، والثاني يتعلق باختياره هذا التوقيت بالذات.

غالب الظن انّ بوتين المَهجوس منذ دخوله الكرملين باستعادة امجاد الاتحاد السوفياتي وبالتالي اعادة روسيا كقطب عالمي ثانٍ، لمسَ التراجع الذي يصيب الحضور الاميركي على الخريطة الدولية ما يؤشر الى حصول فراغ دولي بسبب بدء أفول مرحلة الاحادية الاميركية في العالم. أضف الى ذلك الميل التصاعدي للاميركيين بعدم الاكتراث بالتمسك بالدور القيادي العالمي لمصلحة التفرغ اكثر للمشكلات الداخلية الاساسية والكبيرة. وهذا ما ترجمه الاميركيون بالذات مع اطلاق شعار «أميركا اولاً» والذي ادى منذ نحو خمس سنوات الى فوز مرشح رئاسي شعبوي جاء من خارج المدرسة السياسية الاميركية. وهو ما يعني ان النزاع المفتوح في قلب اوروبا ليس مقدراً له ان ينتهي قريباً، لا بل انه يؤسس لتدشين مرحلة جديدة.

اما التوقيت الذي اختاره بوتين فقد تكون له علاقة بجملة من الاعتبارات تبدأ من الوضع الداخلي للرئيس الاميركي جو بايدن ولا تنتهي مع التسويات الكبرى الجاري صَوغها إن مع ايران في الشرق الاوسط، او مع التضعضع الاوروبي، اضافة الى الاصطفاف الجاري عالمياً لتنظيم خطة احتواء الحضور الصيني في العالم.

في الواقع لا جدال في أن ازمة اوكرانيا جاءت لتزيد من المشكلات التي يعانيها بايدن على المستوى الداخلي خصوصاً. فالجمهوريون الذين يحشدون قوتهم لإنزال هزيمة كبيرة في حق الديموقراطيين وانتزاع الغالبية في مجلسي النواب والشيوخ بعد نحو ثمانية اشهر، يركزون حملتهم الداخلية على ضعف القرار الاميركي في ظل رئاسة بايدن.

على سبيل المثال فإن السيناتور الجمهوري البارز تيد كروز قال لقناة «فوكس نيوز» انّ اوروبا على وشك الدخول في الحرب بسبب ضعف بايدن وعجزه.

في المقابل تعمل ادارة بايدن للدفاع عنها من خلال ابراز استطلاعات للرأي تشير الى رفض غالبية الاميركيين اغراق بلادهم بحرب في اوكرانيا. لكنها في الوقت نفسه تحدثت عن نجاح جهودها في تأمين حشد دولي موحد وضمن جبهة واحدة ضد موسكو. واعتبرت انّ خطتها ناجحة وافضل مما كان يحصل في اوقات مشابهة في الماضي. وقد تكون ادارة بايدن مُحقّة في عرضها، لكن الاقتصاد الاميركي ملزم بتحمل بعض الاوجاع بسبب حرب العقوبات التي اعلنتها ادارة بايدن. والمشكلة تكمن في ان سنة 2022 هي سنة انتخابات واستحقاقات داخلية وسط تحديات غير ملائمة. ادارة بايدن تقول انّ ازمة اوكرانيا هي نتيجة متوقعة لسياسة متهورة انتهجها سلفه اي دونالد ترامب وحتى باراك اوباما فالاخير لم يحمل روسيا على محمل الجد ووصفها هازئاً بالقوة الاقليمية ما أزعج جداً الكرملين يومها، اما ترامب فكان واقعاً تحت تأثير بوتين.

قيل عن الرئيس الروسي انه يدرس نقاط ضعف خصومه ثم يهاجمهم، ويُروى عن انه سمح لكلبه بالتجول بحرية خلال وجود المستشارة الالمانية انجيلا ميركل في زيارته. فهو تعمّد ترك كلبه يقترب من ميركل التي تخاف الكلاب وكانت تُشاكس سياسته. والهدف كان تشتيت ذهنها قبل البدء بالمحادثات، لكنّ بايدن الذي ما يزال يعاني الآثار السلبية للانسحاب الاميركي العسكري السيئ من افغانستان، يعمل في شكل دؤوب على إنجاز تفاهمه مع ايران للعودة الى الاتفاق النووي. الى حد انه وافق على بعض شروط ايران الاساسية كمثل الافراج عن الارصدة المالية المجمدة.

ونُقل عن الايرانيين تمسكهم بهذا الشرط خلال تفاوضهم غير المباشر مع الاميركيين واعتبارهم انهم شعروا بالاشمئزاز عندما انسحبت واشنطن من الاتفاق، وهو ما يستوجب حصولهم على ضمانات قبل الاعلان عن الاتفاق. ومع الافراج عن الارصدة المجمّدة سيستفيد الجناح الايراني المتشدد والذي يمسك بالسلطة من مكاسب مالية واقتصادية هائلة، اضافة الى نصر معنوي وسياسي واعلامي.

الواضح ان أزمة اوكرانيا وضعت الادارة الاميركية في موقع تفاوضي سيئ، ولهذا ربما اختار بوتين هذا التوقيت بالذات. ومصائب ادارة بايدن لا تقف هنا فقط، فإسرائيل أبدت قلقها من ان تؤثر ازمة اوكرانيا على المعادلة الحربية التي كانت قد رسَمتها روسيا في سوريا وسمحت بفتح الاجواء امام الغارات الاسرائيلية الدائمة. والمعلوم انّ اللوبي اليهودي صاحب نفوذ كبير داخل الحزب الديموقراطي. صحيح ان العقوبات الاميركية على روسيا جاءت متوسطة التأثير، والمقصود من ذلك إبقاء خطوط التفاوض مفتوحة لكي لا نقول دفع الامور في اتجاه كواليس المفاوضات وهو المكان المفضل للديبلوماسية الاميركية، اضافة الى انه قد يكون الهدف الفعلي للتصعيد الروسي، الا انّ الحكومة الاسرائيلية تُبدي قلقها من الدخول في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار وهو ما يهدد التنسيق العسكري الذي كان قائماً بينها وبين روسيا في سوريا.

في الواقع نقلت روسيا جزءاً من أوزار «ازمة اوكرانيا» الى سوريا. لذلك باشَر الجيش الروسي بتعديل قواعد اللعبة في سوريا. طلائع هذا التبديل بدأت قبل انفجار ازمة اوكرانيا مع الاعلان عن طلعات جوية روسية وسورية في الاجواء الجنوبية. الاشارة كانت تمهيدية واتبعت في الايام الماضية بالتشويش على الاجهزة الالكترونية والتي تعرقل تحليق الطائرات الاسرائيلية، اضافة الى تنفيذ تدريبات القوات المحمولة جواً في الجولان.

الاشارات الروسية لم تقتصر على اسرائيل حليفة الاميركيين، بل طاوَلت تركيا القوة العسكرية الاكبر بعد الاميركيين في حلف «الناتو». وبحكم عضويتها أرسلت تركيا مساعدات عسكرية الى اوكرانيا وطائرات مسيرة متطورة، وفي المقابل اعلن نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف ضرورة إشراك الاكراد في سوريا في المفاوضات السياسية.

ما يعني انّ أزمة اوكرانيا تنفجر في سوريا وتطاول شظاياها الشرق الاوسط. وخلال المرحلة الاخيرة عملت اسرائيل ومن خلال «اتفاقية ابراهيم» على بناء تحالف استراتيجي مع دول الخليج سيسمح بنقل اسرائيل من قوة اقليمية محتسب لها الى قوة اقليمية عظمى. فدول الخليج تتمتع بموارد مالية هائلة وموقع جغرافي مميز وقريب من ايران الهدف الفعلي لهذا التحالف. صحيح انّ السعودية ما تزال رسمياً خارج هذا التحالف، لكنها قد لا تتأخر كثيراً وهي التي تقف على خلاف سياسي، والاهم عقائدي وديني، مع السلطة الدينية الايرانية. وعند الجهة الغربية لاسرائيل اي عند الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، هنالك ثروة الغاز وخط نقله الى اوروبا حيث لاسرائيل حضور اساسي فيه. لكن خط الغاز المقترح انشاؤه يصطدم بعقبات اساسية، فهو يتكوّن من انابيب بطول نحو 1900 كلم ووظيفته نقل الغاز الى اليونان. لكن أخيراً جرى التشكيك في إمكانية تنفيذ هذا المشروع، وقيل ان واشنطن ابلغت ذلك صراحة الى قبرص واليونان الشهر الماضي.

في المقابل جاءت ازمة اوكرانيا لتُعيد اواصر العلاقة القوية مع اسرائيل، وجاء اقتراح اسرائيلي حول جر الغاز ليعزز من قوة هذا التقارب. فثمة اقتراح غير واضح حتى الآن بتمرير الخط عبر لبنان وسوريا. ولم يتضح ما اذا كان المقصود براً او بحراً. وهذه النقطة بالذات ستضاعف الاشارات السلبية الروسية في سوريا. في الاساس إن التقارب التركي ـ الاسرائيلي في هذه الظروف سيقابله حساسية روسية مفرطة مع اتجاه الى تقليص حرية العمل العسكري لإسرائيل. فكيف اذاً مع مشاريع لنقل الغاز، البعض يعتقد ان الكماشة التركية ـ الاسرائيلية في سوريا ستضعف الحضور الروسي في المعادلة، فيما هنالك رأي آخر في أنّ إمساك روسيا عسكرياً بأوكرانيا وتعزيز التعاون الروسي ـ الايراني في سوريا سيجعلان تركيا تقع في الكماشة الروسية. ايّاً يكن الوضع فإنّ لبنان أضعف من ان يراهن على التطورات رغم انه معني في شكل اساسي بحصته من الغاز بعد التفاؤل الاميركي بالجواب الذي حصل عليه آموس هوكشتاين حول الترسيم البحري.

تكفي الاشارة الى حدة الازمة الاقتصادية في لبنان، والتي ستجعل على سبيل المثال اكثر من 60% من اللبنانيين خارج الرعاية الطبية في السنة المقبلة.

Leave A Reply