بعد أكثر من عامين من الحرب المدمّرة في غزة، جاء الاتفاق الأخير ليُعيد رسم ملامح المشهد الإقليمي بأبعاده السياسية والعسكرية والإنسانية. فما حصل ليس مجرد هدنة عسكرية، بل نقطة تحوّل استراتيجية قد تفتح الباب أمام شرق أوسط جديد، يقوم على معادلات مختلفة في ميزان القوى، وتوازن الردع، والأولويات الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، يبرز موقع لبنان كلاعب متأرجح بين موقعه الجغرافي الحساس ودوره السياسي غير المستقر، مما يجعله في صلب التحوّلات المقبلة، إمّا كشريك في الاستقرار أو كساحة مفتوحة على المجهول.
صحيح أن اتفاق غزة الذي وقع في شرم الشيخ وشارك في التوقيع عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعدد من قيادات الدول العربية والإسلامية أوقف القتال بين العدو الإسرائيلي وحركة «حماس»، لكنه حمل في طيّاته ملامح مرحلة جديدة من تنظيم الصراع، سواء داخل الأراضي الفلسطينية أو في المنطقة.
فعلى مستوى غزة، بات من الواضح أنّ فصائل المقاومة لم تعد قادرة على العودة إلى نفس قواعد الاشتباك السابقة، خاصة في ظل الالتزامات الجديدة بوقف إطلاق النار والرقابة الدولية على الإعمار. وفي المقابل، تجد إسرائيل نفسها أمام واقع متغيّر يحدّ من قدرتها على استخدام القوة دون حسابات دولية أو ردود إقليمية.
كما أن الاتفاق، ولو بشكل غير مباشر، أعاد إدراج فكرة «الحل السياسي» إلى طاولة النقاش، بعد سنوات من التعويل على الحسم العسكري، وهذا التحوّل لا يمكن عزله عن السياق الأوسع، تراجع الأولويات العسكرية لبعض القوى الدولية، تصاعد القلق من الانهيار الاقتصادي والإنساني في غزة، وعودة التنافس الإقليمي على من يرث النفوذ في المناطق التي فقدت استقرارها.
أما لبنان، الذي وجد نفسه خلال الحرب الأخيرة في مرمى التهديدات والتوترات على جبهته الجنوبية، يتعامل اليوم مع تداعيات الاتفاق في غزة من زاويتين: الأمنية والسياسية.
في هذا الإطار، يتحوّل الجنوب اللبناني إلى نقطة اختبار حقيقية: هل يمكن تحييده ضمن سياق تهدئة شاملة، أم سيبقى رهينة توازنات محلية وخارجية تجعل منه خط تماس دائم؟ الدولة اللبنانية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بفرض حضورها الفعلي في تلك المنطقة، ليس فقط بوصفها ممثلاً للسيادة، بل كضامن للاستقرار، واعادة الإعمار. فالتحوّلات الإقليمية المتسارعة تعيد إلى الواجهة النقاش اللبناني القديم – الجديد حول سلاح حزب االله، ودوره في مرحلة ما بعد غزة. فالحديث عن إعادة ترتيب الأولويات في الصراع مع إسرائيل، وتقليص مساحة العمل العسكري المباشر، يطرح تساؤلات حول مستقبل «معادلة المقاومة»، خصوصاً مع اتساع الفجوة بين الرأي العام اللبناني المنهك اقتصادياً، والمشهد الإقليمي المتحوّل.
في المقابل، يتمسّك حزب االله، حتى الآن، برؤيته للسلاح كجزء من معادلة الردع الإقليمي، ويرى في التفاهمات الدولية مجرد محطات مؤقتة لا ترقى إلى مستوى الحلول النهائية. هذا التباين في الرؤى قد يزيد من تعقيد الوضع الداخلي اللبناني، ويغذّي حالة الانقسام السياسي.
لكن ورغم التحديات الواضحة، يحمل اتفاق غزة في طيّاته فرصة نادرة للبنان، إذا ما أُحسن التقاطها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح.
مصادر سياسية متابعة ترى أنه إذا استطاع لبنان – ولو تدريجياً – إعادة تفعيل مؤسساته الأمنية والعسكرية في الجنوب، ضمن رؤية متكاملة للحفاظ على الاستقرار، فسيكون قادراً على تحسين موقعه التفاوضي في أي عملية تسوية مقبلة. عودة الدولة إلى الجنوب ليست فقط ضرورة سيادية، بل عامل استقرار داخلي وخارجي، ورسالة واضحة للشركاء الدوليين والعرب بأنّ لبنان شريك في الحل، لا جزء من المشكلة، فالمشهد الإقليمي اليوم يشهد حالة من إعادة التموضع: دول تراجع علاقاتها مع طهران، وأخرى تقترب من تل أبيب، وبعضها يفضّل التريّث والحياد. وفي هذا الإطار، يمكن للبنان أن يلعب دوراً متقدّماً إذا ما اختار التموضع في خانة الدولة القادرة على التفاوض باسم الجميع.
وفي تقدير المصادر انه مع بدء التحضير لعمليات إعادة الإعمار في غزة، سيكون هناك حراك دولي واسع يشمل التمويل والمساعدات وتحديث البنى التحتية. لبنان، إذا أثبت جديته في ضبط الوضع الأمني، يمكن أن يستفيد من هذه الدينامية، خاصة في ما يتعلق بالمناطق المتضرّرة في الجنوب. المشاريع الدولية لا تأتي فقط كمساعدات، بل كجسر تواصل بين الداخل والعالم، وفرصة لإنعاش الاقتصاد المحلي.
وتعتبر المصادر أن قابل الأيام سيحمل الكثير من السيناريوهات من بينها: التهدئة الشاملة، حيث تنجح التفاهمات الإقليمية في فرض مناخ استقرار، وتتمكن الدولة اللبنانية من فرض سلطتها تدريجياً جنوباً، مع تقليص أي نشاط مسلّح غير منظم، أو العودة إلى التصعيد، في حال فشل التفاهمات الإقليمية، أو حدوث خروقات جوهرية في غزة أو الجنوب، ما قد يجرّ لبنان إلى مواجهة جديدة لا يتحمّل كلفتها.
وفي تقدير المصادر أن لبنان ليس خارج المعادلة، بل في صلبها، فالصراع لم يعد فقط في غزة، بل في كل زاوية من زوايا المنطقة، والتغيّرات لم تعد تقتصر على موازين النار، بل تشمل الأدوار، والتحالفات.
من هنا فان الرهان على الوقت لم يعد خياراً، فإما أن يتحرك لبنان، بوصفه دولة ذات سيادة، نحو بناء مشروع وطني واضح يعيد رسم دور المقاومة ضمن استراتيجية دفاعية منضبطة، ويستعيد الثقة المحلية والدولية، أو أن يستمر في الدور التقليدي كساحة لتصفية الحسابات، يدفع فيه شعبه الثمن السياسي والاقتصادي والأمني.
حسين زلغوط – اللواء

