الدين العام في خطة الحكومة للتعافي… إخفاء للحقيقة المرّة

 

جاسم عجاقة – الديار

ما كان على الحكومة معالجة ملف بحجم ملف الدين العام بهذا الإستخفاف المطروح في خطّتها للتعافي! فَبِثلاثمائة وثلاثين كلمة موزّعة على عشرين سطرًا، عالجت الحكومة مُشكلة الدين العام، متنكرة لجوهرية هذا الملف بكل أبعاده المالية والإقتصادية والمصرفية والإجتماعية، وحتى الحوكمة المالية للدولة.

الدين بحدّ ذاته ليس بأمرٍ سيءٍ، فهو يُشكّل رافعة إذا أُحسن إستخدامه، ويُشكل أيضًا أملًا بالمستقبل، خصوصًا من ناحية المشاريع التي يتم تمويلها من خلال الدين للحصول على إيرادات مُستقبلية تجعل إمكانية سدّ الدين العام حقيقية، وتؤسس لخطوة مُستقبلية أخرى في إطار التنمية الإقتصادية والبشرية.

لكن في الوجه الآخر للدين العام، هناك الجانب السيء، وهو أنه يُعتبر المجرور لكل السياسات المالية الخاطئة والحوكمة غير الرشيدة للمال العام. هذا ما حصل في لبنان، فلا أحد يُمكنه نكران أننا لم نُسجّل أي فائض في الموازنة منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، وهذا العجز كان يُموّل من خلال الإستدانة التي كانت في البدء بالعملة الوطنية، ومن ثم تحوّلت إلى إستدانة بالعلمة الصعبة.

في دول كفرنسا مثلًا، تُرسل الإدارة الضريبية سنويًا إلى منازل المواطنين بالبريد الرسمي، مُلخص عن تقرير ديوان المحاسبة لمعرفة وضع المالية العامة والدين العام. والأهم، يشرح التقرير أين صُرفت الأموال، وكيف إستفاد منها المواطن والقطاعات، وغيرها من الأمور التي تدل على الشفافية في التعاطي مع المواطن والأسواق المالية. ويستخدم المواطن هذه التقارير لتكوين فكرة عن الأحزاب التي سيدعمها في الإنتخابات القادمة.

الدين العام في لبنان

في لبنان، تم الإنفاق بين العامين 2006 وحتى تشرين 2017 على أساس القاعدة الإثني عشرية، مع إعتمادات من خارج الموازنة تمّ قوننتها في المجالس النيابية المتعاقبة. وإرتفع الدين العام خلال هذه الفترة إلى الضعف، من 35.8 مليار دولار أواخر العام 2005 إلى ما يقارب الـ 70 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2016! ولم يعرف أحدٌ كيف صُرف هذا الدين العام، وأي قطاعات إستفادت، وما هي المشاريع التي مُوّلت. لكن الأهم في الأمر هو: من أين تمّ تمويل هذا الدين العام؟ قبل بدء الأزمة السياسية – الإقتصادية – المالية – المصرفية في أواخر العام 2019، كان دين الدولة، وبحسب تقرير بنك «أوف أميركا» يتوزّع على الشكل التالي:

53 مليار دولار أميركي بالعملة الوطنية و51.3 مليار دولار أميركي بالعملة الصعبة.

المصرف المركزي كان يحمل 29 مليار دولار أميركي بالدين بالليرة اللبنانية، والمصارف 18 مليار دولار أميركي بالدين بالليرة اللبنانية، والباقي لمستثمرين آخرين لبنانيين (7 مليارات دولار أميركي بالليرة اللبنانية).

إذًا وكما نرى أن مُعظم التمويل الداخلي بالعملة الصعبة (أي 77% من الدين العام بالعملة الصعبة) يأتي من أموال المودعين. من هنا نطرح السؤال عن نوعية أخذ قرار وقف دفع سندات اليوروبوندز في الـ 2020 ، التي ضربت النظام المالي بأكمله. هل كانت تعلم الحكومة آنذاك أن 77% (أو مُعظمه) من هذا الدين هو من أموال المودعين؟ إذا كانت تعلم فهذه مُصيبة وإذا كانت لا تعلم، فالمصيبة أكبر!

معالجة غير مؤاتيه

ما ورد في خطة التعافي الحكومية بعنوان «ملفات الحكومة اللبنانية في سياسات الإصلاح المالي والإقتصادي» والتي تمّ إرسالها إلى النواب بشكل غير رسمي ومن دون أن نعرف إذا كانت أُقرّت في مجلس الوزراء أم لم تُقرّ، هو عبارة عن 330 كلمة موزّعة على 20 سطرًا، وفيها نكران للواقع وتجاهل تام للمودعين، لا بل أكثر من ذلك، هناك إستهداف للودائع!

في الفقرة 13 من هذه الخطّة، تُشدّد الحكومة على أهمية إستدامة الدين العام، مُذكّرةً بحجم الإنفاق على الدين العام في المرحلة السابقة مع ثلث إنفاق الدولة، الذي كان يذهب لدفع الفوائد على الدين العام. وتعترف الحكومة أنها إتصلت بالدائنين الأجانب (من دون الإتيان على ذكر الدائنين المحليين الذين هم المصرف المركزي والمصارف والذين أقرضوا الحكومة من أموال المودعين)، وذلك بهدف الدخول رسميًا بمفاوضات لإعادة هيكلة الدين العام وخفضه إلى 100% من الناتج المحلّي الإجمالي بحلول العام 2026 ، مُعلّلة ذلك بـ « انخفاض قيمة الدين المقوّم بالعملة المحلية نتيجة الانخفاض الحاد في سعر الصرف»!

– أولًا: تناست الحكومة أن ناتجها المحلّي الإجمالي هو بالليرة اللبنانية، وأن خفض نسبة الدين العام إلى هذا الناتج يعني شيئا من إثنين: أو أنها تريد شطب ديونها وهذا هو السيناريو الأكثر إحتمالًا، خصوصًا الدين الداخلي أي أموال المودعين بحكم أنها تواصلت مع الدائنين الأجانب من دون المحليين، أو أنها تتوقّع أن يأتيها مدخول بالعملة الصعبة، وهذا المدخول قد يكون دفع مُسبقا من شركات الغاز المتواجد في البحر ، وهذا أمر شبه مُستحيل في ظل عدم القيام بإصلاحات بحسب ما صرّح العديد من المسؤولين الدوليين.

– ثانيًا: تعترف الحكومة في الفقرة 14 من خطتها للتعافي، أن الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على دولار الـ 1500 هو 95 مليار دولار أميركي أو ما يوازي 455% من الناتج المحلّي الإجمالي. وتُقر بأن الدين بالعملة الصعبة هو 33 مليار دولار أميركي، متناسية التسهيلات التي قدمها مصرف لبنان إلى وزارة المال، والبالغة 16.8 مليار دولار أميركي بحسب بنك «أوف أميركا»!

والأبشع في الأمر، أن الدين بالعملة الوطنية تُقدّره الحكومة بـ 62 مليار دولار أميركي على سعر صرف 1500 ليرة ، وتتوقّع أن ينخفض إلى 3 مليار دولار أميركي على سعر صرف 30 ألف ليرة. ما تناسته الحكومة أن 18 مليار دولار أميركي من دين الدولة بالليرة اللبنانية يأتي من أموال المودعين إستثمرتهم المصارف في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. وبإعتمادها سعر صرف السوق السوداء، تضرب الحكومة بشكل مباشر الودائع بالليرة اللبنانية، ولكن أيضًا الودائع بالدولار الأميركي التي تمّ تحويلها إلى ليرة لبنانية لإستثمارها في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية!

– ثالثاً: تقول الحكومة في خطتها الفقرة 15 أنها ستُصدر سندات دائمة للبنك المركزي بقيمة 2.5 مليار دولار أميركي. ولا نعلم من هو المستثمر الذي سيتشجّع لإقراض الدولة اللبنانية أو المصرف المركزي في هذه الظروف؟ من هذا المنطلق، نرى أن هذا الأمر خارج عن المنطق، حيث لم تتخذ الحكومة أي إجراء إصلاحي حتى الساعة، حتى ولو أنها أقرّت موازنة العام 2022 (كارثية!) وعدّلت قانون السرية المصرفية.

مما تقدّم، نرى أن التعاطي مع مُشكلة الدين العام أتى بإستخفاف من قبل الحكومة، لأن المتضرّر الأول من هذه المعالجة هم المودعون بالدرجة الأولى من ناحية خسارة كبيرة على ودائعهم بالدولار الأميركي وبالليرة اللبنانية، وعلى المواطن اللبناني بالدرجة الثانية الذي ستنهار عملته بشكل إضافي نتيجة عدم قدرة الحكومة على خفض الدين العام نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي حتى ولو قامت بإقتطاع الودائع، نظرًا إلى أن الناتج المحلي الإجمالي سيرتفع نتيجة التضخّم وليس نتيجة زيادة الإنتاج.

في الواقع، كنا نتوقّع من الحكومة التي تتعاطى مع أهمّ مؤسسة مالية دولية ، عنيتُ بذلك صندوق النقد الدولي ، أن تُقدّم جداول وأرقامًا ودراسات عن التداعيات على المودعين وعلى الإقتصاد نتيجة ما تطرحه. إلا أن ما وجدناه في هذه الخطة (فيما يخص الدين العام) هي مجموعة أفكار كُتبت من دون أي منهجية علمية.

Leave A Reply