“في يوم يشبه الثلاثاء”.. قصص عن لحظات هاربة من حيواتنا

بين القسوة، والرهافة، تتحرك قصص “في يوم يشبه الثلاثاء”، للكاتب المصري سامح يني، وتجدل بينهما بإيقاع سردي منتظم، فمن بين الخراب المحيط، والقسوة المفرطة في العالم، ثمة نزوع إنساني يتجلى في تفاصيل صغيرة، وعابرة.

وتبدو القصص جميعها ابنة لروَح أسيانة، يتقاطع فيها خطّ القص الرئيسي مع الماضي المستعاد، وتبدو الحكاية في شقّيها الواقعي والفنتازي أساساً للسرد داخل المجموعة.

وفي قصصها التي تبلغ 23 قصة قصيرة، يقبض فيها القاص على ماهية النوع الأدبي، ويدرك آلياته المركزية من التكثيف والاختزال على مستويي اللغة المستخدمة، والحدث القصصي، إلى التقاط تلك اللحظات الفارة من حيواتنا المنسية.

ضمائر الحكي

يجيد يني توظيف ضمائر الحكي المختلفة في مجموعته الصادرة في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويُنوّع في استخداماته لها في قصصه الخمس الأولى، وبما يتسق مع وضعية الراوي.

ففي القصتين الأولى والثانية (رحلة/ عقارب الساعة)، يوظف القاص ضمير المخاطب، ويصبح المروي عنه مرويًا له في الآن نفسه، ثم يلجأ للسرد الموضوعي عبر استخدام ضمير الغائب في قصتيه (ورد أحمر/ ابتسامة)، وصولاً الى استخدام ضمير المتكلم بما يتيحه من مساحات أخرى للبوح في (ظرف بنّي قديم).

وفي كل تبدو النهايات المأسوية حاضرة، ويبدو استخدام تقنية الحلم متواتراً في القصص. وتدخلات السارد وتعقيباته على الحدث القصصي أيضاً.

العناوين والأبنية

تبدو العناوين هنا جزءاً مركزياً من أبنية القصص، وهي على بساطتها دالّة وموجعة، وتتذرع بالسخرية المريرة أحياناً من قبيل “ليلة موت الحمار”، كما يبدو كلّ شيء قابلاً للزوال، خيط ممتدّ صوب نهاية محتومة ملؤها الفقد والخذلان، وتلعب نهايات النصوص دوراً مركزياً في هذا المسار القصصي بدءاً من “رحلة” تتوزع بين الحياة والموت، ويأخذ الارتحال بعدا ماديًا وآخر نفسيًا، وفي كليهما تتجه الذات المسرود عنها صوب المجهول علّها تبدأ رحلة جديدة بلا فقد أو خذلان.

وتتيح إمكانات الحكي بضمير المخاطب قدراً أكبر من الإبانة عن إخفاقات النفس البشرية والحصار الذي يجابهها، ويُطوع القاص الزمن ليصبح جزءاً من تجدد المأساة وعنفها المستمر (أمس… قسوة الفعل الماضي، واستحالة إعادة اللحظة التي مرت بيد مرتخية تحاول إمساك الوقت لصنع أحلام لا تتحقق/ الآن.. قسوة اللحظة الراهنة…../ غدا.. قسوة المستقبل وأحلام بعيدة في الأفق..).

وفي “ورد أحمر” تلوح لعبة نزع الأقنعة عبر رصد مشاهد عابرة لشخوص متعددين يمثلون عصب القصة، بدءاً من بقّال التموين ووصولاً إلى الكاهن، ومن الدنيوي الى الديني، ليكشف السرد الموضوعي الذي يستخدم ضمير الغائب تناقضات النفس البشرية، ووحدة الإنسان الفرد واغترابه اللانهائي: “في نهاية القداس، خرجت من الكنيسة بمفردها. تتمدد داخلها مساحات الوحدة عندما ترى دوائر بشرية تقف في فناء الكنيسة، تتبادل الضحك والكلمات. تمشي ببطء بجوار السور، تتجنب مياه الأمطار، وسيارة الكاهن المسرعة لا تنتبه إلى وجودها، فتلوث ملابسها التي كانت تبتسم لها أمام مرآة منزلها، لتناسق ألوانها، فتصنع ابتسامة وتكمل المشوار” ( ص24)…

ثمة روح طفولية بريئة وماكرة، ومنبئة عن هزائمها المقبلة، تلوح في قصة “ابتسامة”، وتظهر عبر تقنية المفارقة الدرامية في ( طائرة ورقية ملونة) والتي يبرز فيها عالمان: أحدهما ينتمي اليه الطفل (مدرسة قديمة ومتهالكة)، والآخر مدرسة تنضح بالبهجة التي لم يلاقِها. يتتبع الولد الطائرة الورقية الملونة وهي تهبط في الفضاء الجديد، قافزاً السور ليجد في انتظاره عالماً لم يشهده من قبل، ولأن البهجات عابرة هنا؛ فإن العصا الغليطة تكون في انتظاره.

كل شيء مدجج بالخوف، ويتعزز الغياب الإنساني أكثر في “ليلة موت الحمار” التي تنهض على التوازي بين المشاهد القصصية.

مشاهد متواترة

ثمّة حالة من الإخفاق تبدو في قصص عديدة من بينها “لم تعد كذلك” التي يعود مرجع الضمير فيها على الفتاة التي أحبها السارد البطل ثم تبخرت مثل حلم ضائع.

وعلى الرغم من بنية الإخفاق المهيمنة على فضاءات المجموعة، إلا أن ثمة رغبة عارمة في التشبث بالحياة في مواجهة الموت، نراها في بعض القصص مثل “ظرف بني قديم”، ومثلما تتجادل الحياة والموت، تتجادل الذات مع عالم يفرض إيقاعه القاسي الرتيب.

تنهض قصة “في يوم يشبه الثلاثاء” التي تحمل المجموعة اسمها على تواتر المشاهد السردية وتقاطعها، وتأتي جملها قصيرة ومكثفة، على الرغم من المساحات الواقعية العارمة التي حوتها. وعنوانها جملة مجتزأة من مسار القصة تحكي عن موت بطلها المركزي “العجوز الراحل”: “في يوم يشبه الثلاثاء، وبعد أن جففت النسوة أرض غرفة العجوز من ماء الغُسل المختلط بدموعهن، كان صاحب المنزل يصطحب في يده الساكن الجديد ليمنحه المفتاح، وهو يشرح له مميزاتها وأهمها الشباك المبطن بورق الجرائد القديم، الذي يطل على الحارة” (ص75).

ويوظف الكاتب آلية الانتقال السردي المتكئة دوماً على المشهدية البصرية التي تجعلك أمام عالم صاخب ونابض بالحيوية، بدءاً من معركة مصطفى “عامل البلاط” وأخيه عبد الله الذي لبس حذاءه الجديد، ومقتل صلاح على يد “رجب العفريت”، في معركة ضارية بسبب “البرشام/ المخدرات”.

وتلوح هنا عوالم من القاع، ويبقى “العجوز”، مركز السرد في القصة، وعلامة على النزوع الإنساني داخل المكان، حين يحتوي غضب المجموع بلا كلل. يبدأ النص بالعجوز وينتهي إليه، في الغرفة التي تستر نوافذَها أوراق الجرائد القديمة، في عالم من الجحيم، عالم من العراء.

تلوح مدينة السويس بتاريخها النضالي في “تعويذة المحارب القديم”. ثمة سردية جاهزة ينبغي التنبه إليها تظهر في بعض المواضع، ومن أبر زها قصة “حنين” حيث النوستالجيا إلى الأيام الأولى التي يتزاوج فيها الفقر والأنس، في مقابل الغنى والوحدة.

يعرف سامح يني من أين يبدأ قصصه، وكيف ينهيها، منبئاً عن قاص حقيقي يمكن الرهان عليه، مدركاً جوهر النص القصصي، واتكائه على الحذف لا الاستطراد، التكثيف لا الزوائد، عبر مجموعة تلعب بضمائر الحكي، وموقع الذات الساردة من النظر إلى عالم معقد، وممتد.

المصدر: النهار العربي

Leave A Reply