تحقيق الزميل حسين سعد عام 2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحدها بعض الغرف الدائرية وأجزاء من قطع سكة الحديد بمحاذاة الشاطئ الجنوبي الممتد من الناقورة حتى القاسمية شمال صور، تخبر عملياً عن قطار سكة الحديد المتوقف منذ نكبة فلسطين عام 1948. وقد أنشأ الجيش الانكليزي السكة بين العامين 1942 و1944 في ذروة الحرب العالمية الثانية لأغراض عسكرية حينها، لم يبق منها إلا الذكرى التي يرويها من عمل في تمديد الألواح الحديدية والخشبية في ظروف البرد القارس تحت سطوة الجنود البريطانيين وظلمهم.
قليلون عايشوا العمل على تمديد خط سكة الحديد المسمى “ن. ب. ط.”، أي الناقورة، بيروت، طرابلس، الذي أنشئ بموجب القرارين 159 و160 الصادرين عن المفوض السامي الفرنسي، من دون أخذ حقوق أصحاب الأملاك والعقارات التي مرت السكة في أراضيهم بعين الاعتبار. وقليلون كذلك يعرفون جهة استعمال الأبنية الدائرية الحجرية البيضاء، التي يؤوي بعضها مهجرين، وكانت مخازن معدة لتزويد القطارات بالمياه والفحم الحجري.
ويلفت مصدر في وزارة النقل إلى أن “خط سكة الحديد بين فلسطين والناقورة وطرابلس مروراً ببيروت استمر بالعمل ونقل البضائع، بعدما كان ينقل العتاد العسكري والمؤن للجنود الفرنسيين والبريطانيين حتى عام 1948، فيما بقي الخط الممتد من بيروت إلى طرابلس يعمل حتى عام 1978، وخط الجية الزهراني حتى عام 1987 الذي كان يتم عبره نقل الفيول إلى معمل الزهراني الكهربائي”. ويؤكد المصدر أن “شركة فرنسية أعدت مشروعاً عام 1994 بتكليف من وزارة النقل اللبنانية، بهدف إنشاء خط سكة حديد من صور إلى طرابلس، مخصص للركاب”، وأن تلك الشركة “تقاضت حينها مبلغاً كبيراً من المال، وأن المشروع أحيل على مجلس النواب ولم يبت به نتيجة كلفته المرتفعة”.
ويعود الشيوعي العتيق مصطفى قندقجي (أبو اسماعيل) إلى أكثر من خمسة وستين عاماً يوم أجبرته الضائقة الاقتصادية على العمل مع عدد كبير من أبناء صور والقرى المجاورة في تمهيد الطريق ومدّ الحديد والخشب للقطار. ويقول قندقجي: “كانت الأوضاع المعيشية صعبة للغاية، حيث لم تكن فرص للعمل متوفرة بفعل الحرب العالمية الثانية والانتداب الفرنسي للبنان. فوجدنا في ذلك العمل متنفساً رغم الصعوبات والمخاطر، وخصوصاً أثناء العمل في منطقة رأس البياضة – الناقورة نتيجة استخدام “التينولات” في إزالة وتفتيت الصخور الكبيرة التي قذفت أحد العمال إلى عمق البحر، وقضى، وهو على ما أذكر من قرية المنصوري القريبة من المكان ويدعى محمد حبيب هاشم”. ويلفت قندقجي إلى أن العمال كانوا يتقاضون أجراً يومياً قدره ليرة لبنانية واحدة، وأن المسؤولين عن العمال كانوا من “عساكر المستعمرات البريطانية، وخصوصا الهنود والباكستانيين والاستراليين والنيوزيلنديين”. فيما كان الجنود البريطانيون يراقبون من داخل مكاتبهم.
ويذكر أبو اسماعيل أن “جنديا إنكليزيا ضرب أحد العمال بواسطة سلك كهربائي، ما دفع الأخير إلى ضرب الجندي “بالرفش” الذي كان يمهد به الطريق”. ومن المحطات التي لا تزال في ذاكرته “عودة الوفد اللبناني من فرنسا خلال معركة الاستقلال عن طريق فلسطين بواسطة القطار، الذي كان يتصل ببلدة بئر السبع الفلسطينية عند الحدود المصرية”. وكان “الوفد مؤلفا آنذاك من الرئيسين رياض الصلح وصبري حمادة وسليم تقلا ورئيس الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي رافق الوفد حينها نظراً لوجود حكومة اشتراكية في فرنسا برئاسة ليون بلوم”. ويقول قندقجي: “أثناء توقف القطار للتزود بالمياه والفحم مقابل ثكنة الجيش اللبناني الحالية في صور، أطل الرئيس الصلح من نافذة القطار وحيا المحتشدين من أبناء المنطقة، وهنأهم بالاستقلال”.