قاسم حداد… طرفة بن الوردة ومراثي الأنا

علي حسن الفواز

القصيدة تدوخني، تجرّني مثل حصان إلى الحرب، أو الإسطبل أو الفراغ، لذا أحتاج إلى يقظةٍ شرسة، إلى وجعٍ أكابر فيه، وإلى وقتٍ يتمطى مثل أفعى، مثلما أتشوّق إلى مجالٍ غاوٍ للتلقي، حيث أُبادلُ القصيدةَ قلقي، وتبادلني مجازَها وقناعها، وما يتساقط منها بوحا واعترافا، وتدفقا وشغفا وبكاء.

هكذا أبدو وأنا اقرأ قاسم حداد، وهو يكتب مرثيات «أناه» حيث الشاعر الذي يلبس قناع طرفة بن العبد، ابن الوردة، وحيث تنزع اللغة عنها ثوب رماد الاستعارات، لتبدو وكأنها مراودة على الجمر، وافتراسا لما تبقى، وذهابا إلى الموت الذي يشبه الحياة، فالشاعر أو قناع طرفة، يستدعي الشعر ليحاوره، أو يتلقاه بوصفه وجعا، أو رؤيا، أو ربما بوصفه بيانا، أو احتجاجا، أو حتى قلقا يجعله أكثر تجاوزا للتاريخ، ولمساحة الكرسي الذي يتلذذ بطقوس النعاس.

لعبة القناع هي الأكثر تمثيلا لحضور الشاعر، على مستوى التوظيف، أو على مستوى التمثيل، فكلاهما يتحولان إلى مجسات لمقاربة الذات والهوية والجسد، إذ تبدو محنة طرفة في التاريخ، هي ذاتها محنة الشاعر، وهو يرى العالم مفجوعا بالغياب والمنفى والخيانة، فضلا عن ما يستدركه من التمثيل لتأسيس خطاب للاستبطان، ولاستعادة الفكرة، أو حتى لوعي العالم من خلال الشعر، أو من خلال « قناع» طرفة، بوصفه قناعا للرؤيا، وليس للتورية، أو الهروب، ولتأكيد سؤال وجودي، فيه من التشفير ما فيه من الوضوح، وفيه من الغياب ما فيه من الحضور، وفيه من الحفر ما فيه من القراءة، إذ يكون ذهابا في التلمّس، وفي الشغف والتشهي.

القراءة – هنا- لم تعد مقاربة في البراءة، أو التجاوز على ذاكرة المحو، إنها محاولة لافتراس العالم، إذ يقترح قاسم حداد كتابة مغايرة، تستدعي التفاصيل، السيرة، الموت، وكأنه عبر هذا الاستدعاء يضع ذاته أمام رهانات يصنعها الآخر، الذي خدع طرفة واغتاله، والذي يجدد أقنعته كلما «ضاقت العبارة، وضاقت الرؤية» وليكون هذا الضيق المركّب هو الضدي، والاستعاري، والهروبي، وهو الغواية التي تدفع نحو وضع التاريخ تحت سطوة اللغة، حيث لا شيء خارجها، وكلُّ ما يدخل في سرائرها يتحوّل إلى طلاسم، وإلى خوارزميات، وإلى استعارات نافرة، تساكنها مراهقة الروح، وشراهة البحث عن معنى، وغواية البحث عن وطن، عن لحظة سكون عارمة، بعيدا عن أسئلة المطارات، وضجيج أصحاب الليل الثقيل.

الكتاب الشعري والتقسيم

وضعنا قاسم حداد أمام خريطة لا حدود لها، لكنها مفتوحة على الشعري والسيري والتاريخي والوجودي، تقسيم هذه الخريطة، قد يبدو مزاجيا، إذ تُجاهر به الأنا، وهي تختصر رؤية الشاعر للعالم والخطاب والفكرة، حيث قسّم تلك الخريطة إلى فصول وكتب وأناشيد، وأبواب، وهي إحالات أكثر مما هي تشيؤات، إذ تُحيل إلى الصوفي والسحري والإشراقي، مثلما تُحيل إلى الوجودي، بوصفها تمثلات تتفجر فيها الطاقة الشعرية بوصفها طاقة الشاعر الخبيئة، نداءه لمواجهة الحاضر الملتبس والغامض، بمراثي الغائب الأكثر وضوحا، وهي ثنائية قاسية، لكن الشاعر يوظفها عبر متوازيات، لها دلالتها، ولها تقانتها التعبيرية، حيث تبدو لعبة قاسم حداد في استحضار ثنائية الشاعر والملك مقابلا لاستحضار ثنائية الشاعر والسلطة، تلك التي يجعلها أكثر تمثيلا لهواجسه، ولفضائه الاستعاري الذي يدور حول فكرة «الأنا» والقناع، والرؤية، وجملة النداء.

وأحسب أن تعالق هذا الفضاء الاستعاري بشيفرة «طرفة» هو لعبة ماكرة في الكشف عن» فردنة أنويته» عبر سلسلة من التوازيات والتماثلات، بدءا من القلق، والهوية والمنفى، وليس انتهاء عند اللغة الحادة، التي تبدو فيها أسئلة الشاعر الفاجعة، حاضرة، ومُستفِزة، وليجد في خيار القناع نزوعا للمناورة، حيث أنسنة الصراخ والاحتجاج والوجع، وحيث تتحول اللغة إلى خطاب، له فضاؤه وآخره.

في «فصل الأناشيد» يضع «كتاب السيرة» استهلالا لمقاربة الوجود، وللحفر في طلاسمه، حيث يتكشف عن «باب الغرائز» عن ترميزات وإحالات تجعل من البحر الطويل الذي كتب به طرفة بن العبد معلقته، إشارة إلى البحث عن ما يشبه المشابهة في اللغة والمصير، رغم أن الشاعر ذهب إلى البحر الكامل، بوصفه أكثر تمثيلا لوجعه الوجودي والشخصي الذي يناظر وجع طرفة المقتول بالخيانة والخديعة.

قلبي على البحر الطويل،

شموخه في هودجٍ،

ويموج أكثر خفة من ريشة التذهيب

يسري كالنبيذ ويصقل البلور

وشمٌ في اليد.

ورشاقةٌ لغةٌ

كأن اللهَ صاغ لشاعر ماء على البحر الطويل.

في «دفتر طرفة» يدون الشاعر رؤيته، إذ يتغور النص، يكشف عن نسقه، لتتجلى الأسماء الخائنة، وكأنها هي ذاتها التي تغدر اليوم، إذ تُفشي السر، وتداهن، وتخادن، وترسم عبر سردية شاسعة سرائر ما لا تتحمله القصيدة، وهذا التشابك «السردشعري» هو إبرز العلامات التشكيلية في «كتاب» قاسم حداد.

التحولات ومخيلة الفتى

في كتاب «التحولات» يضعنا الشاعر أمام توليفة من الإحالات، حيث القرآن، والأثر والحلم والجسد، وحيث يتحول توصيف القصيدة إلى فعل سحري، يؤديه الرائي، وهي تقانة صوتية، يستكنه من خلالها قاسم حداد شراسة النداء، نداء الخلق والتكوين، إذ يقرنه بما تستدعيه الشهوة، وهي أول مكونات الخلق، حيث الحفيف، والهياج و«الهطول الماجن» وحيث «الاكتراث بنساء الفتنة» لتبدو الانعطافة، دافعة نحو أقصى التحولات التي تُبرر «القراءات» واستجلاء المخفي، وكأنها توسّع من لعبة القناع الرمزية، إلى «ما يفرط في التعليل» وما «يراه التأويل» وهي ثنائية ضافية، تسوّغ الرؤية، وتكشف متاهة السير في المعلقات، فالشاعر لا ينفك يستمرئ ذلك، كشفا عن طلاسم الوشم، والمعجز والجنة والمشكاة، وأن يجعل من «ذاته» الضدية شخصية قناعية خاضعة وصفيا للسخط والنهي، لكي تكون الكتابة لعبة في الصحو، وفي فضح المخفي، وفي إقصاء الموت الذي وقع تاريخيا، لكنه المؤجل رمزيا، وكلا الأمرين متماثلان، والدفعُ هو فعلٌ ضدي للإعلان عن صوت الأنا، إزاء تاريخ الخديعة والخيانة والمحو.

استخفّ وشفّت يداه عن النار

عن المستدق من الجمر

يغزل أو تشفّ الروح فيه، بأخطائها، كن لها،

يا أيها الشعر أجّل تآويلها،

كي يُتاح ليَّ الموت من أجلها

دفتر السجن.. دفتر قاسم

الكتابة في الدفاتر لعبة سرية، اقترحها غرامشي للاحتيال على التاريخ، وللكشف عن مغامرة استفزت فكرة الوضوح، وأحسب أن قاسم حداد أراد أن يستعير هذه اللعبة، ليكتب ليقوّض النوع والطريقة، مثلما استعار أودنيس فضاء «الكتاب» ليقترح مواجهة مع التاريخ والوجود والمعنى، وليجد في تدوين السري عتبة لكتابة اعترافه، وللبوح بسرائر الخديعة التي جعلته شبيها بطرفة بن العبد، أو بصعلكة عروة بن الورد، فالصعلوك والقتيل كلاهما متمردان يبحثان عن الحرية. تشابه الخيارات والمصائر، قد لا يكون خيارا شعريا، هو أقرب للأيديولوجي والأنطولوجي، لكن حداد أراد أن ينحاز إلى نصه الخاص، نص تتحول فيه الجملة إلى خطاب، والفكرة إلى رؤية، والأيديولوجيا إلى مناورة، والاستعارة إلى غواية، حيث تنحلّ الجملة من فعليتها المباشرة لتكون نسقا يضمر الرمزي والسيميائي، وحيث تسقط الفكرة في فخ التاريخ لتحضر الرؤية بوصفها تأويلا، مثلما تخون الأيديولوجيا «وعيها المزيف» كما يقول ماركس، لتكون المناورة فضحا لكل شيء، للتاريخ والسلطة والجسد والآخر والمنفى.

إن ما يجعل قاسم حداد مختلفا هو، إحساسه بالتجاوز، وبالسعي لانتزاع الشعر من تاريخ كتابته، ليكون محاولة لاستدعاء الأنا، وهي تؤرخ ـ عبر القصيدة للاحتجاج، ولتوصيف الحرية، ولمواجهة التاريخ المحشو بالأحداث، وحيث تحضر بوصفها اعترافا ورثاء، حدّ القول بأن طرفة بن العبد، أراد أن يجعل من موته رثاء لكل الشعراء الذين خدعتهم السلطة واللغة والتاريخ، وأن يمنح هذا الرثاء بلاغة نزقة، حيث كل شيء قابل للتعرّي والتحول والتأويل، وأن حساسيته هي التي تشعل في اللغة حرائقها، تلك التي توقظ معها موتى كثيرين أولهم طرفة بن العبد

٭ كاتب عراقي

 

المصدر: القدس العربي

Leave A Reply