2023… الأماني لم تعد ممكنة

مع بدء الاحتفال بمرور عام وبداية جديد في ليلة رأس السنة حول العالم يهنئ كل شخص أو مجموعة أو مؤسسة أو حزب بعضهم البعض، متمنين أن يكون الأخير مليئاً بالسرور وتحقيق الأمنيات وتأمين المطالب التي رفعها المحتفلون أنفسهم في احتفال العام الماضي حين تمنونه أن يكون أفضل من سابقه، لكن يبدو أنه لم يكن كذلك، فعادوا لتوديعه واستقبال الحالي بالتطلعات نفسها في إصرار شديد نحو الأفضل.

منذ عقود طويلة غالباً ما يكون العام التالي أسوأ من سابقه في الدول العربية الممتدة على شاطئ المتوسط في شمال أفريقيا أو على الساحل الشرقي للمتوسط وصولاً إلى إيران مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة. وهذا ما يردده الشباب العربي وعائلاتهم الصغيرة والموسعة، ووسائل الإعلام العالمية والمنظمات الدولية والمؤسسات التي تصدر تقارير عن المجتمعات العربية المتضررة من أزماتها وأزمات العالم، وهو أن العام المقبل لن يكون أفضل على ما جرت الأحوال منذ أجيال بعيدة.

الجديد لن يكون أفضل

أظهرت وسائل الإعلام والمجلات التي تهتم بأمور الاحتفالات وتوديعات واستقبالات عامي 2022 و2023 أن اهتمام الشعوب العربية باحتفالات رأس السنة خفتت تماماً بالقياس عما قد مضى، وارتفع عدد متابعي منجمي رأس السنة عبر شاشات التلفزيون ووسائل التواصل لأصحاب التوقعات الاستشرافية لمستقبل كل شخص بعينه بواسطة كتب الأبراج الغالية الثمن والأكثر مبيعاً من بين نظيراتها في التخصصات.

استقبال العام الجديد أمام شاشة التلفزيون بات خياراً إجبارياً لكثير من العائلات العربية التي كانت تؤلف الطبقة المتوسطة قبل أن تهبط عدة درجات، وبعضها اقترب من خط الفقر في معظم الدول العربية. ففي لبنان ومصر وسوريا والسودان وتونس والجزائر والأردن والعراق، بات راتب الأستاذ الجامعي أو الضابط في الجيش لا يساوي في أقصى أرقامه أكثر من 50 دولاراً أميركيا اليوم، بسبب التضخم الاقتصادي العالمي وانهيار العملات المحلية أمام العملة الأميركية، خصوصاً في الاقتصادات شبه المدولرة.

وتلعب السوق السوداء غير الخاضعة للرقابة دوراً سلبياً كبيراً في انهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، وغالباً ما تحظى هذه السوق غير الشرعية للتلاعب بأسعار العملات بغض نظر السلطات وإدارييها المستفيدين من هذا التلاعب. الذي يضاف إليه احتمال اشتعال حرب جديدة بين سكان بلد واحد أو بين جيشين عدوين أو سقوط نحو هاوية الفقر بسبب التضخم المالي العالمي الذي يكبل نمو الاقتصاد منذ عام 2008 .

التضخم العالمي منذ تفشي فيروس كورونا لا يرحم من آثاره البلدان المتقدمة والغنية أو ما يسمى دول العالم الأول منذ انتشار فيروس كورونا مطالع عام 2019 ما أدى إلى رفع سعر فواتير الطاقة على المواطنين بشكل مطرد، ثم ازدادت القسوة السابقة مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا حيث تأثرت معظم دول الاتحاد الأوروبي المعتمدة على النفط الروسي، بينما نال التأثير المباشر من معظم اقتصادات الدول الفقيرة أو النامية بسبب اعتماد معظم شعوب العالم على القمح والزيت المنتجين في البلدين المتحاربين وحلفائهما المتسترين وراء كواليس المعارك المحسوبة بدقة لئلا تتوسع في تلك المنطقة الحساسة من العالم. وكما في أي نوع من النزاعات بين قادة الدول وجيوشها فإن الناس العاديين أو العامة من الناس أو المواطنين العزل الذي كانوا يمضون معظم حياتهم في تأمين مصروفات حياتهم اليومية أو الشهرية مع محاولة ادخار بعض المال للتعليم أو للصحة من أجل مستقبل الأولاد، هم المتضررون الأوائل من أي انهيار اقتصادي أو احتكار تجاري لمادة مهمة يحتاجها المواطنون يومياً كالدواء والبنزين والغاز والخبز.

يقول المعلقون العرب من الشباب في صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، إن التهنئة المتبادلة وتمني سنة جديدة أفضل وأقل ألماً وعنفاً وقسوة من السنة التي سبقتها، هو أمر أشبه بتمني الشعوب العربية لرفع الحدود الطبيعية والسياسية بين دولهم لتسهيل تنقلهم وتواصلهم وتعايشهم وتبادل الأموال والمتاجرة بحرية كما لو أنهم في دولة واحدة. أي أنه أمنية شبه مستحيل تحقيقها رغم أن معظم الشباب العربي تربى على فكرة الأمة الواحدة والوحدة العربية المقدسة والمجد العربي الضائع الذي لا يزال كثيرون ينتظرون عودته.

لم يقتصر استقبال 2023 بالتشاؤم على العرب فقط، بل في معظم أنحاء العالم المتأرجح تحت قوة ضربة التضخم المالي المستمرة منذ عام 2008 تقريباً. فدرجت التهنئة في معظم أنحاء العالم على الشكل التالي، “لا تشغل نفسك بالأعياد، فالسنة المقبلة ستكون أفضل، لأنه لن يأتي ما هو أسوأ من التي مضت”.

هذه التهنئة كانت ذات وقع كبير بوجهيها الضاحك الباكي، وقد ظهر هذا النوع من التهاني على عديد من وسائل الإعلام، إذ يبدو أن الناس ما عادوا قادرين على حمل نفقات الاحتفالات الضخمة والمبهرة والمكلفة التي اعتادوا عليها عند استقبال العام الجديد. بل علق كثيرون في الدول الأكثر تضرراً من التضخم الواقع في لبنان ومصر والأردن وفلسطين والعراق وإيران حيث يضاف إلى التضخم وكورونا ثورة الإيرانيين والإيرانيات الحالية والممتدة بتقطع منذ عام 2009. في أفغانستان الوضع أقوى بكثير من الأمنيات والتهاني أو الحديث بلا حرج، فهناك كما إيران حتى الحديث بلا حرج بات مراقباً وممنوعاً.

الجواب الأكثر تداولاً على سؤال المواطنين أين سيمضون احتفالهم بالمناسبة السنوية العالمية، أمام شاشة التلفزيون في المنزل مع العائلة والأقارب، فكلفة حجز مكان لشخص أو شخصين أو عائلة في واحدة من احتفالات رأس السنة المنتشرة في كل مكان، سيكلف أضعاف الحد الأدنى للأجور، بل قد تكون تكاليف السهرة المنزلية نفسها عالية مقارنة بقيمة الرواتب التي انخفضت بحدة في السنة الأخيرة بمعظم الدول العربية محدودة الدخل كمواطنيها.

الأثرياء الجدد يفرضون التهاني

لكن الصورة ليست تشاؤمية إطلاقاً، فهناك الطبقة العليا أو الثرية التي جمعت أموالها بعد وصولها إلى السلطة عند سقوط أنظمة وظهور أخرى في معظم الدول العربية. وصعود طبقة لا بد مؤد إلى إفقار أخرى كانت ثرية أو في مواقع السلطة قبل، وكالطبقة الجديدة كانت القديمة قد جمعت أموالها أيضاً باستغلال السلطة والنفوذ والصلاحيات والمحاصصة والفساد والرشاوى. وغالباً ما تظهر طبقة الأثرياء الجدد من بين ركام الدمار الاقتصادي والإداري الذي يصيب معظم الدول العربية منذ زمن.

الأثرياء الجدد اليوم في معظم العواصم العربية المنهكة من آثار الانتفاضات التي بدأت منذ عام 2011 متمازجة مع الانقلابات المضادة كما في مصر وتونس أو مع قمع جماعي حاد كما في الجزائر أو مع سقوط سريع لقيمة العملة نتيجة لسياسات مالية خاطئة والنهب المنظم لأموال الخزينة من قبل مديري النظام كما حصل في لبنان وسوريا وليبيا والعراق وبعض السودان ودائماً في فلسطين والعراق يضاف إليها ثورات الإيرانيين الواقعين بين سندان حكم الحرس الثوري والميليشيات المتفرعة عنه ومطرقة العقوبات الدولية التي لم تتوقف منذ عقدين وأكثر.

ولا يهم سؤال طبقة الأثرياء العربية الجديدة عن مكان الاحتفال بقدوم 2023. فالمكان واسع ومفتوح أمام صاحب المال المستجد والمستفيد من تفقير مئات الآلاف من مواطنيه بواسطة نفوذ سياسي أو عشائري أو عسكري ميليشياوي أو نفوذ جغرافي مستند إلى مساعدات مالية للزعامات المحلية في الأحياء والمدن الصغيرة والدساكر والشوارع والزواريب حيث تعلق صور المتمول السياسي الجديد في كل مكان بصفته “المدافع الأول عن حقوق الفقراء”، أو “صديق الفقراء ونصير المحتاجين ومنقذ المساكين والأيتام والأرامل والثكالى” الذين أنتجتهم الحروب نفسها التي أثرى بسببها. وهؤلاء الأثرياء ليسوا استثناء في الدول العربية الفقيرة، بل باتوا طبقة خاصة بنفسها ذات قوانين وقواعد في تعاملها مع السلطات المنتخبة.

هذا الفقر المتطاول والمتناسل في المجتمعات العربية خصوصاً خلال السنتين الأخيرتين ينتج عنفاً داخلياً مكبوتاً أحياناً ومشهوداً في أحيان كثيرة، تحديداً في الدول التي تستقبل منذ عقود اللاجئين الفلسطينيين ومنذ سنوات اللاجئين السوريين إلى جانب مواطنيها الأسوأ معيشياً من ضيوفهم كما في لبنان والأردن ومصر والعراق وسوريا نفسها.

سنة جديدة أفضل… تمنٍ أم سؤال؟

يبدو أن تمني عام جديد أفضل وأكثر هناء وسروراً ويسراً من الذي مضى أشبه بالمزحة أو السخرية من أن يكون جدياً، ففي كل الأعوام السابقة كان التمني نفسه ولكن تجري الرياح بما لا تتمناه الشعوب، خصوصاً إذا كانت السفن فارغة وترسو فوق اليباب. فلو جرت الرياح كما تشتهي أو عكس ما تشتهي سيكون الأمر سواء.

يمكن القول بحسب التقارير الأممية والإحصاءات والمقابلات التي جريت مع عينات من الشباب العربي ذكوراً وإناثاً، إن أجيالاً كاملة من المولودين في عام 2000 وما فوق، لا يفهمون معنى التهاني بانتهاء العام على خير على أمل أن يكون التالي أفضل منه، “إذ ما نفع الأمنية إذا كان أصحابها لم ولن يمتلكوا مكاناً يسكنون ويستقرون ويبدأون حياتهم منه وفيه. وما نفع الأمنية طالما أن النزاعات العنيفة في العالم وبالأخص العربي منه، الأهلية أو العسكرية أو الموجهة ضد جماعات بعينها بسبب التمييز الجندري أو العرقي أو الديني أو الإثني أو الثقافي، لا تكف عن التوالد والتضخم عاماً بعد آخر”.

يرصد أحد التقارير السوسيولوجية الأوروبية التي طالت شمال أفريقيا ومنطقة المشرق العربي، أن ما يقارب ثلاثة أجيال من الشباب العربي يعتقدون أن الحياة جولات متواصلة من العنف والنزاعات يتخللها بعض الاستراحات القصيرة تسمى سلاماً، وتحديداً في بلدان كان من المفترض بحروبها أن تؤدي إلى سلام بعدما أشعلت لهذا الهدف مثل لبنان وسوريا والعراق وتونس والسودان والجزائر وليبيا واليمن والصومال.

اليونيسكو تدلي بدلوها

منظمة اليونيسكو المتفرعة عن هيئة الأمم المتحدة تحاول طمأنة شعوب العالم في دراستها الجديدة حول أصول العنف البشري والمنشورة على موقعها الإلكتروني، وجاء فيها “إن العنف ليس مسجلاً في جيناتنا، بل ظهر لأسباب تاريخية واجتماعية. والحرب ليست ملتصقة بقدر الإنسان، بل هي نتاج المجتمعات والثقافات التي تُولدها”.

بالطبع هذا التعريف لأسباب العنف الصادر عن واحدة من أهم منظمات الأمم المتحدة حالياً، هو نفسه المستخدم على سبيل التكرار في دراسات الأعوام السابقة التي نشرتها اليونيسكو أيضاً، لتؤكد أن العنف يفرض على البشر فرضاً بسبب ظروف معينة. والتعريف مريح جداً للشعوب والحكومات وهيئة الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو ومعها الأونروا الراعية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات التي استقروا وأنجبوا فيها أجيالاً تلو أجيالاً، وأضيف إليها المنظمة الجديدة “يونشر” المعنية باللاجئين السوريين في البلدان التي فروا إليها واستقروا فيها منذ بدء الحرب في بلادهم. وكأن البحث لا يطال أسباب إفقار الشعوب وتهجيرها ثم تثبيتها في فقرها وهجرتها عبر تقديم المساعدات القليلة لهم.

أحد مظاهر اللامبالاة أو تكريس واقع الحال هو الاحتفال بانصرام عام وقدوم جديد، والتمني أن يكون المقبل ليس أفضل من سابقه بل أقل قسوة وعنفاً وإفقاراً لشعوب تدير بقاءها مجموعة من المصالح المتضاربة والمتداخلة بين دول تستخدم سلطتها لصالح شعوبها، ولو على حساب شعوب المرتزقة والبطالة وغياب التعليم وفقدان الخدمات الأساسية أو ما يسميه اللبنانيون “الانهيار الكبير” أو “الجحيم” وما يسميه العراقيون “اللبننة”، والتونسيون “الديمقراطية الجديدة” والسودانيون “التوافق العسكري المدني”، الذي يسميه السوريون استعادة حقوق الأكثريات العددية من الأقليات الحاكمة من جهة أو صد خطة تهديم سوريا من جهة ثانية.

فيديل سبيتي – اندبندنت

Leave A Reply