“أن تعشق الحياة” لعلوية صبح.. ما بعد السيرة

عبّاس بيضون*

عنوان رواية علوية صبح “أن تعشق الحياة” (دار الآداب، 2020) يُشبه أن يكون دعوة، يكاد يكون عبرة الرواية وخلاصتها. البطلة “بسمة”، تكابد مرضها الذي يخترق الرواية من أوّلها إلى آخرها، لكنها في كل محطّات هذه المكابدة تشير إلى هذه الدعوة. الحياة أمامها وجسدها الذي يخونها لها، وهي عند كل فصل تسترجع شوقها للحياة ولاسترداد جسدها.

في مطلع الكتاب، تُهدي الكاتبة روايتها إلى الدكتور بول بجاني طبيبها الذي لولاه “لما عادت إليَّ الحياة والحب والكتابة”. لا أحتاج معرفتي بالكاتبة ومرضها، لكني أقع في نهائية الرواية على اسم الدكتور ذاته يعالج بطلتها بسمة. لا تبعد الرواية إذن عن أن تكون سيرة. إنها سيرة الروائية ومعاناتها، لكنها مع ذلك سيرة مموّهة، سيرة تقصد أن تكون رواية، فبطلة علوية التي هي الكاتبة نفسها لا تتسمّى باسم آخر (بسمة) فحسب، ولكنها في الرواية ليست كاتبة، إنها راقصة.

ربما فضّلت الروائية ذلك لتخيّل علاقة البطلة بجسدها الذي هو آلة الرقص، والذي يغدو لذلك بالمرض هدفاً مباشراً وتجسيداً قريباً لعدوان المرض ومكابدته. مع ذلك، هناك إلى جانب البطلة بسمة شخصية أنيسة الروائية التي انتصرت على الشلل وعادت إلى كتابة الرواية، ممّا يجعلها وجهاً آخر للكاتبة. هكذا تقوم السيرة على ازدواج بسمة وأنيسة وهما معاً، وإن الثانية بدرجة أقل، تقدّمان وجهَي السيرة. بين بسمة وأنيسة درجة من المحاكاة والتماثل تعزّز هذا الحكم.

مع ذلك، بسمة هي التي تبسّط المعاناة وتتدرّج فيها، فيما أنيسة تلخّصها وتبدأ من نهايتها. لقد احتفظت لها علوية بدور الكاتبة الذي لها، فيما حلّ مرضها المسيطر ومشاعرها وأفكارها وأطوارها وغرامياتها في بسمة الراقصة. والحال أننا نقع في بسمة لا على الراقصة فحسب، بل على الكاتبة أيضاً، فهي التي تروي وتصل في روايتها أحياناً إلى لمعات أدبية، بل إلى ما يقرب من الشعر، كما نجد في هذا المقطع: “ومن قال لك إن الصوت لا يحمل ثقل المرض كله على حباله الرقيقة… ولو كان للصوت بصمة لكان لصوتي بصمة اسمها يوسف”.

نشعر بهذا الانهيار في جسدها الذي تتصارع أعضاؤه

بسمة تستحضر المرض الذي هو عبارة عن تشنّجات تشمل الجسد كلّه عند كل وقت. لكنها حتى في هذا الحال تستعيد على الدوام شوقها للحياة. تستحضر المرض، وغالباً، بل دائماً، في لحظة مقاومة تنتهي بعودتها في نهاية الرواية إلى الرقص، الذي تسترد به جسدها وتعيده خفيفاً حتى الطيران. لكن بسمة لا تمرض فقط، إنها ترجع إلى الخلف، إلى أمها الغاضبة وإلى أبيها الذي لا يكفي الأم ولا تتهيّبه هي وتراه أقلّ من الجار المهيب، إلى أن يسقط مريضاً وتُبتر قدماه وتقوم هي بحمله وتنظيفه، ممّا يسخطها عليه، إلى أن يموت فتشعر بغيابه وفراغه.

لا نعلم ما الذي ينضاف من هذه العودة إلى الخلف إلى السيرة الحقيقية للكاتبة، لكننا نجد فيها ما يردّنا إلى روايتَي “مريم الحكايا” و”دنيا” للروائية نفسها. فيهما نجد الأم أو ما يشبهها في البيئة اللبنانية الجنوبية، كما نجد البيئة نفسها بتلاوينها وتضاعيفها ومحيطها النسوي بخاصة.

الصورة

رواية علوية صبح – القسم الثقافي 

خارج هذه البداية، نحن في زمن آخر ومناخ آخر. المحيط النسوي في “أن تعشق الحياة” متّصل بما يشبه أن يكون نظرة نسوية، فالواضح من الرواية أن الذكورية الممقوتة تظهر بين الحين والآخر ممقوتة أيضاً، لكن المحيط النسوي يضمّ إلى جانب البطلة بسمة صديقتيها أنيسة وأمينة. ليست أنيسة سوى شخصية معاصرة، إنها المرأة المثقّفة الكاتبة التي لا تسلم، مع ذلك، من عسف الرجال. أمّا أمينة، فهي شخصية شعبية تملك السمات الفلكلورية للمرأة الشعبية. إنها عرّافة تستحضر جدّها في أحلامها ليتنبّأ لها بمصائر ومخارج من يلجأ إليها في تفسير الأحلام أو الاستفسار عن مشكلة.

أمينة تردّنا بهذه الشخصية إلى بيئة “مريم الحكايا” و”دنيا”. إنها تحلم بالخطّاب وهي بالطبع لن تمارس الجنس إلا مع زوج شرعي. نساء “أن تعشق الحياة” يجمعن بين هاتين الشخصيتين المختلفتين بدون أن يظهر اختلافهما، بل تناقضهما، في صلتهما ببسمة. أمّا الشخصيات الرجالية، فهي في الغالب لعشّاق بسمة الثلاثة: أحمد، ويوسف، وحبيب. وهذه، على حدّ تعبير الرواية، شخصيات افتراضية. أحمد، أوّلها، لا نعرفه إلا ميتاً، ولا نعرف أخباره، ومنها وصيته، إلّا بعد الموت، وفيها يُحضّر أحمد بسمة لما بعد غيابه، يريدها أن تحب وأن تعيش وأن تحب الحياة. الشخصية الثانية، يوسف، نعرفه مفوّهاً ولطيفاً وشاعرياً ومتأملّاً إلى أن يقع في لون من التشدُّد الديني، ينتهي به إلى ترك الرسم وهجر بسمة، ثم الطلب منها أن تتحجّب وتترك الرقص وتتفرّغ له وتطيعه. أما الرجل الثالث، حبيب، فهو استعادة لشخصية أحمد النبيلة المضحّية المبشّرة بالحياة. روائي ورسّام ومسرحي، هُم الثلاثة شخصيات نموذجية. إنهم نماذج مخلوقة روائياً.

لا تبدو سيرة البطلة شخصية، بقدر ما هي حميمة وخاصة

بسمة ليست فقط المريضة، إنها أيضاً الراقصة، وهي أيضاً مراقبة لظرف تاريخي، هو ظرف العنف الإسلاموي والربيع العربي. هذا الظرف الذي يبدو خلفية من الظلال للرواية، لا يلبث أن يغدو محورياً في نهايتها. هنا لا نتعرّف فقط على العنف الإسلاموي ولكن أيضاً على تأويلات دينية معادية للمرأة، كما نجد ذلك في فتوى “تفخيذ” الرضيعة للإمام الخميني.

رواية علوية صبح تكاد توازي ما بين الانهيار السياسي العربي ومرض الكاتبة.

إننا نشعر بهذا الانهيار في جسدها الذي تتصارع أعضاؤه، في عنف يذكّر بالعنف السياسي في الخارج. مع ذلك نحن من أول الرواية إلى آخرها نسمع بصوت خافت أولاً، وصوت مدوٍّ في الأخير، أنشودة الخلاص من المحنة ومن الانهيار ومن المرض. ترى هي نبوءة أيضاً بالخلاص العربي. سيرة البطلة لذلك تبدو لا شخصية، بقدر ما هي حميمة وخاصة. الماضي الكبير يتجاوز الأسرة إلى ما وراءها كما نرى في فانتازيا السبع جدّات الجميلة، فللسيرة ما أمامها وما وراءها. إننا هكذا في السيرة وفي ما بعدها.

 

*شاعر وروائي من لبنان

المصدر: العربي الجديد

Leave A Reply