أربعون عامًا على شهادته.. مصطفى شمران والتاريخ على تربّصه ـ بقلم عضو هيئة الرئاسة لحركة أمل د. خليل حمدان

أربعون عامًا على ارتحال الشهيد مصطفى شمران، عبر الى الآخرة سالكاً درب الجهاد والشهادة حاملاً نداء الأنبياء، وكان من الصادقين والصابرين الذين لا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”.

من معين العلم والعرفان والجهاد تسنم قمم المجد في عمره الفتي اكتسب حكمة العارفين، كتب على صفحة عمره الكثير من المآثر الجبّارة التي باتت هي والخلود على ميعاد تسعة وأربعون عاماً تضج بالعطاء طالما تواردت فيها حياة الجد الموصول على مدى الساعات والدقائق واللحظات، كان موصولاً بالفقراء والمحرومين متواصلاً مع قضاياهم، فأفضل لحظات حياته واسعدها سقوط شاه ايران وعودة الامام الخميني الى أرض الثورة الاسلامية في ايران، واكبر أمل عنده تحرير القدس الشريف، وأكبر ألم عنده إخفاء الإمام القائد السيد موسى الصدر وتغييبه.

أصاب حظّاً من النبوغ العلمي وتسنم درجات العشق الالهي فكان دمه منذوراً ليروي تراب جبهات الحق في كل مكان.

سجيّته كصافية السماء في عشقه وغمّه كشمعة أحبّ أن يساكنها في ليلٍ داجٍ، بل كان يقول “أحترق على الدوام بنار الحرمان والفقر وأحسّ بالغربة عن الدنيا وكل ما فيها”.

أيها الشهيد الذي بذر عمره على درب المحرومين والمظلومين، أحاول أن أعبر الى عالمك من باب لا يوقعني في مهب الحزن وما أنا بمأمون منه فلا أعثر على غيره سبيلاً، مرج في نفسي أن أعدّد صفاتك وأحار من أي المواقع ارتقي فتتسع الرؤيا وتضيق العبارة فيما القلم يستلّ حبره وانت لا تخاف الموت وأنت العصيّ على النسيان وأنت في حياتك في كلّ منحى حيث عملت وأقمت وسجلت كتاباً من التاريخ لا ينسى ولا زلت تضخّ فينا عزيمة ووعياً.

أجل، فإن الشهيد مصطفى شمران شخصية عالمية في جهادها تجاوزت كل الحدود والسدود، كان بوصلتها وقبلتها نصرة الحق أينما كان داخل ايران أو في الولايات المتحدة الأمريكية، في أوروبا أو مصر، في سوريا أو لبنان، في وعيه المبكر ارتكز على حتميّة اسقاط عرش الشاه وهو في جبروته مراهناً على انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الامام الخميني في زمن اعتقاله وسجنه وابعاده الى ما وراء الحدود.

بعد اعتقال الامام في ٤ حزيران ١٩٦٣ وانتفاضة ٥ حزيران ١٩٦٣ التي ذهب ضحيتها الآلاف من الشعب الإيراني قرر ان يغادر الولايات المتحدة حيث اسس اتحاد الطلاب المسلمين الثوريين وغادر عمله في شركة بيل الاميركية الذي عمل فيها لما يكتنز من خبرات علمية جعلته في مصاف الأوائل الذين يعملون في حقلي الكهرباء والإلكترونيات والفيزياء الحيوية.

ومع كل هذه النعم شدّ الرّحال لتدريب نخبة من المعارضين الايرانيين في مصر عبد الناصر، إذ رحّب الرئيس الراحل عبد الناصر باستقبالهم في القاهرة لتعزيز المعارضة الإيرانية على المستويات العسكرية والأمنية وطرق تواصل تنظيم الثورة، وبالفعل كان الرئيس جمال عبد الناصر قد عهد الى السفير فتحي الديب أن يتواصل مع جميع حركات التحرير في العالم لانتشالها من براثن الطغاة والظالمين وتأمين كل المقومات المتوفرة لدى المصريين على أكثر من مستوى، وبالفعل تواصل الدكتور ابراهيم يزدي مع السيد فتحي الديب في سويسرا.

وحضر الشهيد شمران الى أوروبا كونه في لجنة أساسية تدير شأن المعارضين الإيرانيين في الخارج.

وفي مذكرات الشهيد شمران تحدث عن مرحلة التدريب في مصر عبد الناصر وكيف قدم المعارضون الشباب من داخل ايران وخارجها الى مصر بطريقة سرية، وكان وصول الشهيد شمران الى القاهرة في ٥ كانون الثاني عام ١٩٦٤ برتبة مجاهد والمسؤول الأول عن هذه الدورات حيث انهى إقامته في القاهرة حتى اواخر عام ١٩٦٦ ولكنه لم تنتهِ علاقاته بالرئيس عبد الناصر.

هي المرحلة الحرجة التي كان شاه ايران في قمة جبروته والثورة الاسلامية تودع في كلّ يوم ألف شهيد وشهيد ومثلهم من المعتقلين من علماء ومثقفين ومجاهدين ومجاهدات، والرهان على النصر في الزمن الصعب.

هي مرحلة واكبه الامام الصدر وكان على صلة واتصال مع كوادر الثورة بالمراسلة والحضور، اذ أن الوقائع تؤكد على ان الثوار الايرانيين علّقوا الآمال على دور الامام الصدر في لبنان لما له من موقع على المستوى القيادي الشيعي كرئيس للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، ولما له من دور على المستوى الرسمي والشعبي.

فالامام الصدر لا يعدم وسيلة للاتصال بالإمام الخميني المبعد الى العراق، فلا يخلو شهر الا وهناك مرسل ورسول الى الامام الخميني وبالعكس حيث يتم الحديث عن تفاصيل ما يجري في لبنان وايران.

غني عن القول علاقة الامام الصدر بالشهيدين بهشتي ومطهري والشيخ رفسنجاني الذي حضر الى لبنان في مطلع السبعينيات وأعجب بالدور الذي يضطلع به الامام الصدر والدور الذي يمكن ان يقوم به على مستوى لبنان وفلسطين والثورة في ايران، وكذلك علاقة الامام الصدر وحضوره القوي لدى القيادة السورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد الذي كان حاضناً ومسهلاً للثوار الايرانيين كتأمين تنقلاتهم وتسهيلها بطرق مختلفة داخل سوريا وخارجها.

ونتيجة التواصل بين الامام الصدر وقيادة الثورة خارج ايران كان حضور عدد من كوادر الثورة ملحوظاً بدءً من عام ١٩٧١، وكان وصول الشهيد مصطفى شمران الى لبنان في ٢١ تموز ١٩٧١ حيث قصد عمق الجنوب ليكون مديراً لمؤسسة جبل عامل المهنية بدءً من العام الدراسي ١٩٧١-١٩٧٢ واضعاً خبرته العملية والعسكرية الجهادية والفكرية أمام الأجيال.

إن هذه المؤسسة التي أسسها الامام السيد موسى الصدر وفتحت أبوابها عام ١٩٦٩، باتت مصنعاً للرجال على المستوى المهني والتقني والفكري والرسالي، وكمنطلق لتنظيم علاقات تواصل واتصال مع أبناء جبل عامل وصولاً الى الانتساب اليها من مختلف الأراضي اللبنانية، بل ومن أهلنا في أفريقيا والسجلات حافلة بأسماء كبار من تسنّى لهم تلقّي المحاضرات من الامام الصدر ومن خلفه أدّوا صلوات كثيرة، ونعموا أيضاً بتوجيهات الشهيد مصطفى شمران على أكثر من مستوى واضعاً تجربته وعزمه في خدمة المحرومين.

وفي هذه العجالة كان من عاش في نعيم هذه المرحلة يقول بأن القائد مصطفى شمران معلم بالقدوة وأول الحاضرين الى جبهات القتال في الطيبة وبنت جبيل وفي الشياح والنبعة مردداً قول الامام السيد موسى الصدر أينما تكون القضية قضية حق نحن نكون.

ولذلك، على يديه شعّت أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) شهداء كبار قادة ومسؤولين مجاهدين وعاملين، وعلى يديه تفتحت هنا ضامئات الزهر، وعلى عيني الامام الصدر كانت هذه المسيرة وهذا المسار.

الشهيد مصطفى شمران العامل في سبيل الله المسؤول التنظيمي الأول في حركة أمل منذ الانطلاقة الأولى والساهر على احتفالات الامام الصدر في بعلبك وصيدا وصور، الحاضر في ميادين الثقافة والفن والقتال ضد العدو الصهيوني.

باختصار المسؤول الذي لا ينام كان عاشقاً لتراب أحذية الفقراء كما كان يتمنى، وهو المسكون بالامام الصدر حباً ووفاء.

مبكراً بدأ بالإعداد للكوادر العسكرية من المحرومين لوضع حدّ للاعتداءات الصهيونية من اليمونة الى عين التينة وجنتا والكلام لا ينتهي.

لفتني آخر تسجيل للمرحوم الحاج غازي شريف ابن اليمونة والمقرب من الامام الصدر في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، قال: عام ١٩٧٣ طلب مني الامام الصدر أن أهيئ مكاناً لتدريب الشباب المحرومين الذين يريدون الدفاع عن الجنوب في وجه اسرائيل… واليمونة معروفة بمواجهة أهلها للاستعمار في أكثر من مرحلة شأن تاريخ جبل عامل والبقاع وأهلها كلهم اخلاص، ولذلك اطلب منك ان نؤمّن مكاناً للتدريب. فأجاب الحاج غازي باستعداده بعد أسبوع لانجاز المطلوب. ويضيف الحاج غازي شريف وإذ بعد يومين تحضر حافلة فيها شباب وتقف ومعهم شمران أمام المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، فيسأله الحاج غازي شريف عن وجهته؟ فيقول الشهيد شمران: الى اليمونة. قال: ان هذا الأمر يستدعي تحضيراً، وانا وعدت الامام بعد أسبوع. فكان جواب الشهيد شمران خير البرّ عاجله. وبالفعل تم تدبير الأمر في نفس اليوم، وكانت البداية.. أسوق هذه الحادثة لنؤكد ان الشهيد مصطفى شمران كان يستغل كل لحظة ودقيقة من أجل البناء الداخلي والمجتمعي والتربوي والعسكري للتعويض على التقصير المزمن من قبل السلطة وأركانها بحق الجنوب والبقاع وأحزمة البؤس في بيروت وعكار، وبالتالي ان تشخيص الامام الصدر لعملية الصراع مع العدو الصهيوني “ان اسرائيل تريدنا ضحايا بتماديها العدواني على أهلنا وأرضنا من الحدود الى العاصمة بيروت، ونحن أمام خيارين إما أن نكون شهداء أو نكون ضحايا فلماذا لا نراهن على فاعلية الشهيد بدل أن نندب حظنا فقط؟”

بعد انتصار الثورة الاسلامية الايرانية كانت وجهة الشهيد شمران ايران الأرض التي أحب والتي غادرها في مقتبل العمر شاهراً قلمه وسلاحه، وعاد اليها ومعه حسرة اخفاء الامام الصدر، وفي قلبه أمل وأبناء وبنات أمل صلة واتصالاً.

هبّ للدفاع عن الثورة هناك في مواقع بالغة الخطورة، وهو يحمل ثقة الامام الخميني والشعب الايراني كما هو في لبنان كان في ايران قائداً بالقدوة أمام المقاتلين ومعهم يعيش حياتهم وهو مفعم بالأمل والرجاء والنصر الذي له فضل في صناعته وصياغته مع الشهداء الكبار القادة وطالما التحق به العديد من الأخوة في الحركة حيث قبل استشهاده بأسبوع ارتقى رفيق دربه الشهيد علي عباس الى رتبة شهيد في مواقع الجهاد الأمامية على جبهات الحق في وجه الطاغية صدام حسين، ومن قبله أيضاً مجاهدين معه في ساحات الجهاد في لبنان الى ايران كالشهيد عبد الرضا الموسوي وآخرون عادوا الى لبنان وأقسموا على الاستمرار حتى الشهادة.

الشهيد مصطفى شمران حمل ظلم العدو والصديق، يكفيه أنه كتب على صخرة عمره القصير تاريخاً مديداً حافلاً بالعطاء.

الشهيد شمران كان يتحسس آلام المعذبين في مشارق الأرض ومغاربها، نستذكره كمؤسس وشريك لانطلاقة المقاومة والثورة جنباً الى جنب مع الامام القائد السيد موسى الصدر، نستذكره في رحلة العذاب يكفي انه حمزة العصر وثقة الامام الصدر.

وأخيراً، اقتبس كلاماً للأخ الرئيس نبيه بري يوم شهادة شمران “في ذلك الوقت قلت مرة في نفسي انه ليس من قبيل المصادفة أن يمتد الصحابي سلمان الفارسي فجراً في حياة المسلمين الأوائل، كما انه ليس من قبيل الصدفة ان يمتد مصطفى شمران الفارسي برقاً مضيئاً في حياة المقاومين الأوائل الذين نهضوا في الجنوب والبقاع وأحزمة البؤس واعلنوا قيامة أفواج المقاومة اللبنانية أمل عندما صرخ دمهم وانفجر في عين البنية”.

اجل لقد قرانا في مصطفى شمران مواسم العز والمقاومة والأمل بتحرير القدس كما أحبّ. والمسيرة باقية عينها على الشهداء وشمران وعودة الامام الصدر وأخويه وأمل بنصر الله.

Leave A Reply