على ظهره حمل يونس كيس الطحين وأخذ يمشي فيه مسافات طويلة حتى قطع نحو ثمانية كيلومترات سيراً على الأقدام، بصوت يملؤه الفرح أخذ ينادي على أمه “جلبت طحيناً. جلبت طحيناً، أعدي لنا الخبز. الآن نسد جوعنا”.
منذ 10 أيام ولا يوجد في خيمة يونس طحين، وبسبب الجوع أجبر على الذهاب إلى مراكز توزيع المساعدات الإنسانية التي تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية”، وهي منظمة تشرف عليها الولايات المتحدة وإسرائيل، وتعمل في غزة على توزيع المساعدات لكن بطريقة مريبة وبعيداً من الإغاثة الإنسانية التي تقوم بها منظمات الأمم المتحدة.
في رقائق قصدير
بسرعة فتحت الأم فاتن كيس الطحين وباشرت في إعداد الخبز، بدأت بالمرحلة الأولى وهي غربلة الدقيق. ابتسمت الأم فرحاً عندما بدأ الطحين يسقط من الغربال، وفجأة وجدت ورقة قصدير عالقة. تفاجأت وبدت عليها الريبة، بعناية فتحتها لتعثر على ثلاث حبات من العقاقير الطبية.
سرحت فاتن في خيالها، وبعد تفكير ذهبت إلى الصيدلية تستفسر عن العقاقير التي وجدتها، “أوكسيكودون؟ كيف حصلت عليه؟” أجاب الصيدلي وملامح وجهه قد تبدلت.
وأخذ يشرح لها “هذه مادة مخدرة، تناولها يسبب الإدمان حتماً، وقد يؤدي إلى الوفاة في نهاية المطاف”.
لم تتفوه فاتن بأية كلمة، ضمت يدها على العقاقير الأفيونية وغادرت إلى خيمتها وهي خائفة.
السكان تناولوا أنواعاً مختلفة من الطحين التالف
لم تكمل الأم إعداد الأرغفة الساخنة، وعندما سألها ابنها يونس عن السبب أجابت بصراخ “يريدوننا مدمنين، ويريدون للمخدرات أن تنتشر في أجسادنا، لن نأكل من هذا الطحين حتى لو كنا سنموت حقاً، خائفة من أن يكونوا طحنوا المادة المخدرة وخلطوها في الدقيق، قلبي ليس مرتاحاً”.
يونس جائع، لكن إصرار أمه حال دون أن تأكل هذه الأسرة الأرغفة الساخنة، وتضيف الأم أن “الحرب أجبرتنا على تناول طحين انتهى تاريخ صلاحيته، ثم أكل خبز من طحين فيه سوس (حشرة)، وتارة أخرى تناول دقيق تنتشر به الديدان البيضاء، وفي مرة ثالثة عجنّا طعام الحيوانات، أما اليوم فيقدمون لنا طحيناً بطعم المخدرات والإدمان”.
في غزة عثر السكان أثناء فتح كيس الطحين على أقراص عقاقير مخدرة، وكانت مخفية داخل ورق القصدير، وبعدما فحصتها الطواقم الطبية تبين أنها تحوي مادة “أوكسيكودون”، إحدى أقوى المسكنات الأفيونية.
شبهات طحن “أوكسيكودون” وخلطه بالطحين
بحسب الجهات الحكومية، فإن سكان غزة عثروا على عقار “أوكسيكودون” من خلال المعونات القليلة التي يحصلون عليها ضمن المساعدات التي يشرف عليها الجيش الإسرائيلي والحكومة الأميركية، ونشر أفراد على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصوراً توثق عثورهم على تلك العقاقير التي تعدّ من المخدرات.
ويقول مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة “وضع المخدرات في الطحين فكرة جهنمية، وفيها تصعيد خطر للأزمة الإنسانية، إسرائيل هي المتهمة الأولى، الطحين يأتي منها وقواتها تشرف على توزيعه وحمايته”، ويضيف أن “وجود أقراص مخدرة في أكياس الطحين جريمة بشعة تستهدف صحة المدنيين والنسيج المجتمعي، يجب إغلاق مقار توزيع المساعدات المشبوهة التي تشرف عليها الولايات المتحدة وإسرائيل”، ويوضح أن المساعدات الإنسانية تحولت إلى أداة إبادة ممنهجة، إذ “تقدم الرصاص والمخدرات بدلاً من الخبز”، مشيراً إلى أن هناك شبهات أن تكون تلك الحبوب طحنت وخلطت مع الطحين بما يؤدي إلى امتصاصها بطرق غير مباشرة “مما قد يسبب تأثيراً خطراً يصل إلى حالات موت جماعية”.
أفيونات
بعد الفحص المخبري، تبيّن أن الأقراص المخدرة من نوع “أوكسيكودون” 80 ميليغراماً، وهي مادة مخدرة قوية تنتمي إلى فئة الأفيونات، وهي من الأدوية المسكنة للألم الشديد، وتصرف عادة بوصفة طبية فقط لعلاج حالات مثل السرطان أو الآلام المزمنة الشديدة بعد العمليات الجراحية.
ويقول الطبيب صلاح سكيك “عادة ما يستخدم ’أوكسيكودون‘ عن طريق الفم سواء كان أقراصاً أو كبسولات، وهو يسبب الإدمان بسرعة إذا تناوله أحد الأشخاص من دون إشراف طبي، وله تأثير في الجهاز العصبي المركزي”، ويضيف أنه “قد يؤدي إلى النعاس الشديد وتثبيط التنفس، وله خطر الوفاة بجرعة زائدة، وينجم عنه اضطراب في الوعي، ويدرج كمادة مخدرة خطرة وفقاً لتصنيفات معظم الأنظمة الصحية العالمية”.
في العادة لا يصرف هذا الدواء إلا بوصفة طبية، إذ يخضع تداوله لرقابة دولية مشددة، ويشير الطبيب سكيك “إلى أنه، عام 2011، كان السبب الأول للوفيات المرتبطة بالمخدرات في الولايات المتحدة، وانتشاره في أكياس الطحين يعني نشر الإدمان تحت غطاء الإغاثة وعلى نحو واسع في صفوف الغزيين”.