عبد الكريم الحجراوي ينشغل بهاجس الموت مبكراً

علي عطا

“كان لك معايا… لا أريد أن أموت الآن”، هو عنوان المجموعة القصصية الأولى للكاتب عبد الكريم الحجراوي (الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، سلسلة “إبداعات”).

عنوان المجموعة مزدوج وهو مأخوذ من عنواني قصتين ضمن 14 قصة، جاءت في 66 صفحة من القطع المتوسط، واختار الحجراوي أطفال أسرته ليهدي إليهم هذا العمل، الذي ينتظمه الانشغال بالموت/ الخلود، باعتباره مصيراً لم تتوقف البشرية يوماً عن تأمله، عبر مختلف صور الإبداع الإنساني، علماً أن السرد في معظم القصص جاء عبر ضمير المتكلم، ويتولاّه شاب في السادسة والعشرين من عمره، ما يجعل المجموعة أقرب إلى متوالية قصصية.

في قصص مجموعته الأولى، ينتصر الحجراوي لفكرة أن الأصل في الإنسان الخلود، ويفسح المجال للسخرية من الموت وتحدّيه، حتى في ظلّ الإيمان بأنه ليس أكثر من محطة نحو الخلود، وهو هنا يتماس مع أفكار وأساطير أنتجها الإنسان في مختلف العصور. وينطلق في الوقت ذاته من تصورات تبدو فطرية وبديهية، خصوصاً في المناطق الريفية في جنوب مصر، الذي ينتمي إليه بحكم المولد والنشأة، والذي لا يزال على صلة قوية بماض شهد واحدة من أهم حضارات البشر.

تبدأ المحموعة بقصة “كان لك معايا” التي يحيل عنوانها إلى مطلع مقطع من أغنية شهيرة لأم كلثوم، يبدو وكأنه ينطوي على رثاء حبيب فارق الحياة، لكنّ السارد يؤكد منذ الفقرة الأولى الحيرة إزاء ما يبدو تناقضاً بين الحياة والموت: “أدرك أن الموتى لا يعودون إلى الحياة، ولا يسيرون في الشوارع بعد موتهم، ولكني أيضاً متأكد تماماً من أني رأيت بعض الراحلين يسيرون في الشوارع”.

يحكي السارد عن “هدى”، مُحدِداً تاريخ الأول من أيلول (سبتمبر) 2018، وهو تاريخ موتها، الذي علم به مصادفة بعد حدوثه بعام، وعقب انقطاع اتصالهما لنحو عامين. هذا التاريخ هو في الوقت عينه تاريخ ميلاد السارد، الذي يقول إنه لمح فتاته تلك تسير مع صديقة لها قرب مبنى جامعة القاهرة حيث نشأت قصة حبهما، التي سرعان ما واجهت أزمة خانقة بعدما أجبر أهل هدى ابنتهم على الزواج من شخص آخر، فانتحرت… “عقلي يقول: الموتى لا يسيرون في الشوارع. أواصل سيري. أسمعها تغني: كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله”.

دهشة الموت

أما قصة “وتسيل دماؤك أنهارا”، فيستدعي عنوانها أحد مقاطع قصيدة “قارئة الفنجان” لنزار قباني، وكانت آخر ما غنى عبد الحليم حافظ، بعدما حلّت الدماء محلَّ الدموع: “ستجوب بحاراً وبحارا وتسيل دموعك أنهارا”، وفيها يؤكّد السارد – الذي قُتِل غيلة – بعد مرور عشر سنوات على دفنه، أنه حتى بعد الموت يمكن للمرء أن يصادف أشياء تثير دهشته! مستعيداً مرة أخرى تجربة الإخفاق في الحب، فيما المحبوبة هنا تدعى “ليلى”، فنواجه تجدد حكاية ليلى العامرية مع ابن عمها قيس، في زمن يفترض أنه مختلف.

“قارئة الفنجان” تتنبأ بموت حبيب من قبل أن يبلغ مكاناً حصيناً يضم حبيبته، وفي القصة يستدعي الحجراوي ذلك الحبيب من موته ليحكي ما جرى له في عالمين أو أكثر: “لم تكن تلك الجثة الملقاة في هذه الفلاة الواسعة سوى جثتي، وهؤلاء الصبية الذين اكتشفوا مكاني في غفلة من الزمن ليسوا سوى فلذات كبدها… آه يا ليلى لو تعلمين ما مرّ من زمن حتى تُرمى جثتي في هذا المكان الموحش”.

ومن قصة “لا أريد أن أموت الآن” التي نجد عنوانها على الغلاف، تحت العنوان الأساسي، نقرأ ما يلي على لسان قابض أرواح أسطوري: “لم أفكر يوماً في الاعتراض على مهنتي، فالاعتراض من سمات البشر لا سماتنا، سمعتُ مرة أن أحدنا اعترض يوماً ما فنال عقاباً شديداً على ذلك… عُزِل من منصبه وطُرد من السماء. كنتُ أفكر كثيراً كيف جاءته تلك الفكرة التي لم تكن موجودة قبله ولا حتى، من بعده بيننا، اللعنة على كثرة العمل التي دائماً ما تشغلني عن إيجاد إجابة لهذا السؤال الذي يحيرني”.

وفي قصة “ربما ذئب”، يتحدث السارد عن معاناته مع مرض الاكتئاب، الذي يصفه بأنه “ذئب يسكن بين ضلوعي”، وذلك في رسالة قرّر تركها لمن يهمه الأمر، عازماً ربما على الانتحار… “إن لم أستيقظ فستجدون تلك الورقة قرب رأسي”.

وفي “جين الشيب”، وجد السارد نفسه على الأرجح، مشغولاً بهاجس الموت المبكر، بعدما لاحظ أنه يلازم عائلته التي يشيب رجالها قبل الأوان، وتنقضي أعمارهم بلا طائل… “الشيب ذئب أبيض يأكل شعري الفاحم بخبث”، ولذلك يقرر ألا يتوقف عن القراءة؛ ومن ثم الكتابة؛ “لأنها الوحيدة القادرة على منحي حيوات شتى وميتات لا حصر لها، وتخليد اسمي والانتصار على جبروت الموت”.

وتتحدث قصة “الشمَّامة” عن كائن أسطوري، يخيفون به الأطفال في القرى، لأنهم إن لم يتوخوا الحذر وجرب الواحد منهم السير وحده نهاراً أو ليلاً، فستخطفه “الشمّامة”، وتقتله قبل أن تلتهمه، فتتحول تلك الحكاية إلى حلم كثيراً ما أزعج السارد في طفولته، إلى أن يفاجأ بعدما تخطى العشرين عاماً، بالحلم ذاته ولكن كانت يد ابن أخته هي التي تطبق على فمه وأنفه لخنقه وليس يد الشمَّامة…

“لم يعرف، هل صرخ كما كان يفعل عندما كان طفلاً أم لا. كل ما يعرفه هو أنه كان عليه أن يهدئ نفسه، وأن يسمح لضوء الشمس بدخول الشقة معلناً أنه لا خوف طالما هي مضيئة في كبد السماء”.

كره النساء

وفي قصة “كراهية معلنة”، نواجه ذكورية فظّة يبديها السارد تجاه النساء اللاتي يصادفهن وهو في طريقه إلى عمله. يحدث نفسه هو القادم من ريف جنوب مصر، بأنه لا يشعر إزاء هؤلاء النسوة اللاتي يراهنّ في العربات غير المخصصة لهن في قطار الضواحي في قلب القاهرة، سوى بالكراهية، وبالطبع لا يستطيع أن يعلن ذلك، ما يناقض عنوان القصة. هو فقط يصرح بأن مشاعره تلك ليست سوى جزء من مرارة يستشعرها تجاه العالم بأسره، ذلك العالم الذي يجد نفسه مضطراً إلى التعامل معه؛ “كشخص طبيعي، ودود، لطيف، مبتسم، حتى تأتي بداية يوم جديد”.

هكذا وعلى المنوال ذاته تمضي بقية قصص المجموعة (رحلةٌ طويلة، رغبة، انفجار، القيامة، ما لم يقله جلجامش، الموتى يسيرون في الشوارع، يبكون حولي) من دون أن يغيب عن أي منها ذكر الموت وتأمل هذا المآل انطلاقاً مما يمكن اعتباره فطرة إنسانية، وكذلك فإنه يتكئ على أفكار دينية وفلسفية، وحتى قبَلية، ما يضفي على هذا العمل عمقاً يتناسب مع إشكاليات بشرية موغلة في القدم، ودائمة التجدد في الوقت ذاته.

المصدر: النهار العربي

Leave A Reply