حمّص بطحينة

مهدي زلزلي

 

– صحن حمّص بطحينة، حامض زيادة، وملح قليل.

قبل أنْ يُلقي بعبارته إلى الرجل الأشيب البدين، كان قد نقل بصرَه بحَيْرةٍ بينه وبين الفتى النحيف الواقفِ بجانبه. فاستنتجَ سريعًا أنّ الأخير ليس سوى ابنٍ ورث – مُكرَهًا – مهنةَ الوالد، ليحافظ على اسم عائلةٍ بات علامةً تجاريّةً موروثةً من الجدّ الأكبر، الذي يُطلّ مبتسمًا من صورةٍ معلّقةٍ على الحائط.

الأحد هو يومُ عطلته الأسبوعيّ الوحيد. وكان يُفترض أن يتناول فطورَه في المنزل كالمعتاد، لو لم تغادر البيتَ زوجتُه التي يُفرط في الاتكال عليها. وكان يُفترض أنْ تكون في المنزل لولا أنّه الأسبوعُ الأخير من الشهر، موعدُ “نزوحها” الدوريّ مع طفلتهما إلى منزل والديْها، بانتظار صرف راتبه الجديد.

تُجبره المرآةُ الكبيرة في المطعم على رؤية قَصّة شعره، فيلعن الحلّاقَ الفاشل. ثمّ يلعن صديقَه الحلّاقَ الماهر الذي قاطعه مرغَمًا قبل مدَّة. يومذاك، فتح محفظتَه الجلديّة الصغيرة لنقده أجرةَ الحلاقة، فلاحت الأوراقُ الماليّةُ داخلها.

– أيّامك طيبة. يا خيّي إيه، موظّف بالماليّة! مين قدّك؟

فتح فمَه ليقول شيئًا، ولكنّه تراجع. رمى بورقة ماليّة صغيرة على الكونتوار، وغادر من دون وداع.

في اليوم التالي، وبعد قدوم جابي الكهرباء الرسميّة، وجابي مولِّد الاشتراك الخاصّ، وجابي الهاتف، وجابي المياه، ومالكِ البناء؛ وبعد زيارةٍ قام بها بنفسه إلى المدرسة لتسديد القسط الشهريّ عن ابنته؛ تبخّرت الأوراقُ من المحفظة الصغيرة. لكنّ حنقَه على صديقه الحلاق لم يتبخّرْ، فقرَّر مقاطعته إلى الأبد. واليوم، حين ينظر في المرآة بعد اضطراره إلى زيارة حلّاقٍ آخر، يلوم نفسَه على استعجاله.

***

ينتشله من شروده صوتُ الفوّال، وهو يأمر ابنَه بتحضير “سرفيس” لائق لصحن الحمّص بالطحينة. ينظر إلى السكّين في يد الفتى النحيف الدائمِ العبوس، وهي تنهال تقطيعًا على حبّات البندورة والخيار والكبيس، قبل أن تأخذ مكانَها إلى جانب الزيتون وأوراق النعناع. يسأله الفوّالُ إنْ كان قد ذاق الفولَ عنده، فيخبره أنّه لا يحبّ الفول.

– هذا لأنّك لم تجرّبْ تذوُّقَه على أصوله!

يضيف الفوّالُ إلى الطلب صحنَ فولٍ صغيرًا أيضًا. هنا يتساءل إنْ كان الأمرُ كرمًا زائدًا بالفعل، ويقرّر تسديدَ الثمن مسبّقًا كي يتمكّن من استلحاق نفسه قبل الوقوع في فخّ ما. وبعد أن يسمع المبلغَ المطلوب يشعر أنَّه وقع في الفخّ تقريبًا، ولكنْ لا بأس؛ لن يظهر في مظهر البخيل ما دام المبلغُ الذي يحمله يكفي للسداد.

حين غادر منزله في الصباح، لم تكن في جيبه ليرةٌ واحدة، فلم يتردَّد في التوجّه إلى المكتبة التي أودع فيها بعضًا من نُسَخ مجموعته الشعريّة – على سبيل الأمانة – لبيعها بسعرٍ أقلّ من ذاك الذي حدَّدتْه دارُ النشر. تخبره العاملة أنّه لم يُبَع سوى ثلاث نسخ، وتسأله إنْ كان ينوي تقاضي الثمن مباشرةً، فيهزّ رأسَه موافقًا، ويكتم في جوفه سؤالًا “لماذا جئتُ إذًا؟”

يشكر الكتبَ الثلاثة وقرَّاءها المجهولين الذين أعفوْه من مشقّة إكمال يومه صائمًا.

***

بحلول المساء، يُفترض أن يهلَّ هلالُ الراتب، فتُحلَّ المشكلة، قبل أن تتجدّدَ بعد أيّام. لحسن حظّه أنّ المصرف قريب من منزله ويستطيع السيرَ إليه؛ فما تبقّى في خزّان سيّارته من وقود يكاد لا يكفي لإيصاله إلى محطّة المحروقات.

بالأمس، سمع مذيعَ الأخبار يقول إنّ البلاد موشكةٌ على انهيارٍ اقتصاديّ، وأنّ النيّة تتّجه إلى خفض رواتب موظّفي القطاع العامّ أملًا في تلافي ذلك الانهيار. الخبر التالي في النشرة كان عن حاكم المصرف المركزيّ الذي قرَّر إجراءَ “هندسة ماليّة” تحصل بموجبها المصارفُ الخاصّة على خمسة مليارات دولار أميركيّ! لم يندفعْ إلى محاولة تعليل التناقض الظاهر بين الخبريْن؛ فكونُه موظّفًا عاديًّا في وزارة الماليّة لا يعني امتلاكَه قدرةً على التحليل والاستنتاج تفوق قدرةَ أصحاب الشأن.

ينتهي إعدادُ صحن الحمّص بالطحينة وملحقاتِه، ويسبقه إلى الطاولة. يجلس موليًا الشارعَ ظهرَه. لكنّه حين يهمّ بتناول اللقمة الأولى، ينتبه إلى الفوّال يمسح الطاولةَ المتّسخة بكفّ يده، ويمسح أنفَه السائلَ بيده الأخرى.

يعرف أنّ وضعَه لا يسمح له بالدلال الزائد، فيقرّر أن يستعيدَ رباطةَ جأشه التي رافقته أيَّام الخدمة الإلزاميّة في “المغاوير،” وما صاحبها من التهام أفاعٍ نيّئة. يغيّر جلستَه معطيًا الفوّال وابنَه ظهرَه، ليستقبل الشارعَ بوجهه.

ولكنْ ماذا يفعل و”سوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومُ”؟

ألم تجدْ “شهد” وقتًا أنسبَ للمرور من هذا الشارع؟

يحمد ربَّه لاكتفائها بإلقاء تحيّةٍ عابرة عليه، فلا تدخل لتقرع رأسَه بالحديث عن “موهبتها” الشعريّة. يبدو أنّ ردَّه القاسي الأخير قد أثمر.

تُصرّ شهد على كتابة “الشعْر،” وتصرّ على أخذ رأيه في ما تكتبه، وهو يتقزَّز من النفاق السائد في الوسط الأدبيّ تقزُّزَه من فوَّالٍ يمسح مخاطَه وهو يخدم الزبائن. قرَّر التغاضي عن جمالها الخارق وابتسامتها الرائعة، وعن كونها الحبيبةَ السابقةَ الوحيدةَ التي لم تتحوّل إلى عدوَّةٍ له بعد، ففنَّدَ كلماتِها بتجرّدٍ ومهنيّةٍ كما يليق بشاعر شجاع وصريح.

ولم تكن هذه الصراحة جديدةً عليه، ولكنّه لجأ حينًا من الزمن إلى محاولة تلطيف آرائه النقديّة، مدفوعًا بالرغبة في التوقّف عن إثارة المشاكل لكلّ مَن حوله: شقيقتِه التي خسرتْ صديقتَها بسبب إشارته السلبيّة، في مقابلةٍ تلفزيونيّة، إلى نتاجها الأدبيّ؛ وشقيقِه الذي تفاقمتْ خصومتُه مع زميلٍ له بفعل مقالة نقديّة كتبها هو، واتُّهِم شقيقُه بكتابتها أو التحريضِ على كتابتها؛ وزوجتِه التي لم تنسَ ابنةُ خالتها بعدُ حديثَه في المقهى المزدحم عن صلاحيّة تحقيقاتها الاستقصائيّة في الصحيفة التي تعمل فيها لـ”لفّ المناقيش.”

يجرّب – عبثًا – التوصّلَ إلى خلطةٍ تحترم قناعاتِه، وتسمح له بالعيش بسلام، في آنٍ واحد. وسلام هو اسم المجلّة العربيّة التي طُلِبَ منه مؤخَّرًا مكاتبتَها لقاء ألف دولار أميركيّ عن مقالةٍ من ثلاثمئة كلمة!

غير أنّ الاسم استفزّه ودفعه إلى التردّد.

“تعايش،” “تمكين،” “مجتمع محلّيّ”: هذه المفردات باتت تثير لديه حساسيّةً من نوع خاصّ. سأل صديقه الذي عرض عليه الأمر عن علاقة ذلك بالسلام الذي يُزعَم أنَّه بات قدَرًا لنا، فضحك مطمئِنًّا:

– أكتبْ ما تشاء وسترى أنّ نصَّك سيُنشر كما هو.

– ألستُ ملزمًا بالكتابة عن موضوع محدَّد؟ سأله.

– بلى، أجاب صديقُه. ألم تقرأ اسمَ المجلّة؟

وأردف:

– ولكن لك الحقّ أنْ تتناوله من وجهة نظرك.

أن يتقاضى عن مقالةٍ قصيرةٍ أكثرَ ممّا يتقاضاه عن وظيفته أمرٌ يغري شخصًا غارقًا في الديون مثله. وأن يمتلك الحرّيّةَ في تضمين المقالة آراءه كما هي شرط أنْ يلتزم بموضوع “السلام،” فهذا تحدٍّ من نوعٍ آخر. كتبَ كلماتٍ مستهلكةً عن السلام الذي لا يليق إلّا بالأقوياء، ولا يتحقّق إلّا بعد طرد المحتلّين الغاصبين. واعتبر أنّ نشرَ المقالة كما هي انتصارٌ له ولمبادئه، وأنّ الامتناعَ عن نشرها فضحٌ لما تخطِّط له تلك الجهات. وفاجأهُ أنّها نُشِرَتْ في العدد الأول من المجلّة، وأنّها أعجبت القيّمين على هذه المجلّة كثيرًا، كما أخبره صديقُه لاحقًا، وإنْ لم يتقاضَ أجرتَه عنها بعد.

يومضُ هاتفُه الجوّال في إشارةٍ إلى رسالة جديدة. يمسح يديه من آثار الحمّص بالطحينة، مستخدمًا الفوطةَ المعطّرة، ويمرّر سبّابتَه اليمنى على الشاشة لفتح قفلها. ينتقل إلى بريده الإلكترونيّ الذي تتصدَّره رسالةٌ من مجلّة سلام، تُعْلمه أنّ أُجرَته عن المقالة باتت في حسابِه البنكيّ، وأنَّها تُرسِل إليه ربطًا العددَ الثاني، وتتمنّى تزويدَها بعنوانه البريديّ لإرسالها ورقيًّا.

فتح النسخةَ الإلكترونيَّة من المجلّة بدافع الفضول، فطالعه على الغلاف شعارُ نجمة داوود باللون الأزرق، متوسِّطًا هلالًا أخضر، وصليبًا أبيض. وفي الافتتاحيّة حديثٌ عن التعايش بين الديانات السماويّة الثلاث، انطلاقًا من فلسطين إلى كلّ العالم، وهو تعايشٌ “سيكون ممكنًا فور توفّر الجرأة لدى العرب وابتعادهم عن أحقادهم الموروثة.”

هامشُ الحرّيَّة في العدد الأوّل كان طعمًا للكتّاب لا أكثر، إذًا!

بعد دقائق، كان في طريقه من المصرف إلى مقرّ مؤسّسةٍ تُعنى بضحايا الاعتداءات الإسرائيليّة، ويدُه في جيبه تُداعب الدولاراتِ الألف. وفيما كان لسانُه يجول داخل فجوةٍ صغيرةٍ تتخلّل أضراسَه، محاولًا تخليصَها ممّا علق بها من الحمّص بالطحينة، قرَّر أن يزور طبيبَ الأسنان حين ينتهي من تسديد ديونه الكثيرة.

صور

Leave A Reply