هذا “الطوفان”.. مخطّط له من زمان!

تقبع المنطقة عند مدار التطرف، تجتاحها أعاصير مدمّرة، سواء من يمين “إسرائيلي” متشدد، أم من يمين أخر أكثر تشدداً، وإن اختلفت المقاربات، والثقافات. وما “طوفان الأقصى”، وتردداته، إلاّ طفح من “طوفان” مستمر فاضت روافده بعيد الانفجار الكبير في 11 أيلول 2001، والذي دمّر مركز التجارة العالمي في مانهاتن.

يومها ودّع العالم، وبأسف كبير، الاعتدال، والحكمة، والتروي، ليتعايش مع الانفعال، والتطرف. وما حصل في نيويورك كان أشبه بـ”زواج المتعة” ما بين “القطب الواحد، وسطوة القوّة”، والدليل أن العالم وقف على رجل واحدة مشدوهاً، يعاين ما جرى، ويراجع الحسابات، ويتهيّب ردود الفعل، ولم يتأخر الطبيب الجراح في التشخيص، بل بادر إلى إجراء العمليّة على وجه السرعة، وكانت الولادة الأولى في أفغانستان عندما شنّ الطيران الحربي الأميركي غارته البكر على العاصمة كابول ومطارها في السابع من تشرين الأول 2001. يومها، قال الرئيس جورج دبليو بوش إنه أعطى أوامره بالهجوم “ليؤدب التطرف، ويقضي على الإرهاب”، علما بأن واشنطن كانت الراعيّة لأفواجه، والداعمة لفصائله لمواجهة التمدد السوفياتي.

وتبقى العبرة في التجربة. عشرون عاماً من عرض القوّة، والغطرسة، والتحكم بأحوال البلاد والعباد، والهيمنة على المفاصل الحيويّة الماليّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والعسكرية، ليخرج في 31 آب 2021، وجلاً، مذعوراً، سريع الخطى، تاركاً البلاد أمانة في أيدي من جاء لتأديبهم، وكان المشهد معيباً، وأشبه بهزيمة يندى لها الجبين.

بعد أفغانستان، كان الوليد الثاني في العراق، جاء على متن الدبابة ليغزو بلاد الحسب والنسب في 20 آذار 2003. يومها برّر اجتياحه بغرض إنتزاع “أسلحة الدمار الشامل كونها تشكّل تهديداً للسلام الدولي”. بعد عشر سنوات عاد جورج دبليو بوش ليكذّب نفسه، ويعلن أمام الرأي العام بأنه كان يعلم مسبقاً بأن لا سلاح فتّاكاً، بل كذبة تذرّع بها لتبرير فعلته بحجّة “اقتلاع الديكتاتوريّة، ونشر الحريّة، والديمقراطيّة، وحقوق الإنسان”. لكن ما نشره كان مغايراً تماماً للشعارات التي نادى بها، لقد نشر التطرّف، والتنابذ، واقتتال الأخوة، والتباعد بين المكونات الإجتماعيّة. والمضحك ـ المبكي أنه وبعد طول الإقامة غير المرغوب فيها، ينبري اليوم ليصف الفصائل التي تعامل معها على أنها “إرهابيّة”، وقد كان لها السند والعضد في ما مضى!

وأبصر الوليد الثالث النور عندما هبّت “ثورة الياسمين” في تونس، (17 كانون الأول 2010)، لتتحول إلى إعصار عنوانه “الربيع العربي”، واجتاح دولاً وكيانات، وتفتقت براعمه تطرفاً، وعنفاً، وأنهاراً دافقة بالأحمر القاني الذي لم تجف جداوله بعد.

لقد رحّب الأميركي بهذا “الربيع”، وبارك قدومه بأبلغ العبارات، واصفاً اياه بـ”الفتح الديمقراطي” الذي لا بدّ منه لتلقيح الأنظمة العربيّة، وتحرير شعوبها من التبعيّة، والديكتاتوريّة، والإستزلام. لقد دعم مسيرته باندفاع، ومن دون تردّد، وقدم المال، والسلاح، والخبرات، والتقنيات، ولم يبخل باستخدام سلاح العقوبات، وقلب الحقائق، وتزوير الوقائع لتعميم ثقافة التطرف، والقضاء على آخر حديقة جاذبة بتنوع بوحها، وعبق فوحها في المنطقة. فلسفته احتوائيّة: “فرّق تسد”. عقيدته تدميريّة: “تقسّيم المقسّم، وتجزئة المجزأ”!

وكان “طوفان الأقصى”، الوليد الرابع المدمّر، وكانت معه الحسابات الخارجة عن المألوف، هل هي جمع، أم طرح، أم ضرب، وقسمة؟ لا جواب. بل الجواب الوحيد هو أن المجهول لا يزال يتحكم بالعقول، والدليل أن أحداً لم يقدّم لغاية الآن تصوّراً واضحاً لليوم التالي في غزّة: كيف سيكون؟ ووفق أيّ معايير ومواصفات؟ وماذا عن اليوم التالي في الجنوب، وفي العراق، وفي اليمن، وفي البحر الأحمر، وفي الشرق الأوسط على وجه العموم؟

يخوض التطرّف مواجهة مكلفة مع الطرف الآخر، جبهات مفتوحة، وصولات وجولات، وحروب إبادة، وخراب، ودمار، وتغيير معالم ربما تمهيداً وتوطئة لتغيير خرائط. التطرف الإسرائيلي بلغ أعلى الشجرة، وينتظر من يملك الرافعة المؤهلة لإنزاله بأقل الأضرار الممكنة. الطرف المقابل يواجه الإعصار بما يملك، وما تبقى، مراهناً على “تسوية” ما لا بدّ أن تأتي للخروج من النفق.

طاف “طوفان الأقصى” أكثر من المتوقع، بلغ مستويات عالية، غمر الشرق الأوسط بطمي موحلة، لا حكومات فاعلة، لا أنظمة قادرة، لا ديمقراطيات حيّة منتجة، لا ديكتاتوريات حاسمة. إنفلاش، وفوضى، وإنفعال، ورؤوس حاميّة، ومطالب مستحيلة.

وحده الأميركي قادر ـ إن أراد ـ أن يضع حدّاً لهذا الجنون! لكن كيف يكون ذلك وهو المخطط، والمصدّر، والمستثمر، والقابض على الزمام، والقادر على تفعيل اللجام؟!

مشكلته أنه منحاز، ولا يستطيع أن يقدّم نفسه على أنه الحكم المثالي المتجرّد الحيادي المتسربل بالشفافية. إنه في خدمة التطرف “الإسرائيلي”، بمواجهة الطرف الآخر، وقد كشف عن “قرعته” في مجلس الأمن الدولي، وفي الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، وأمام محكمة العدل الدوليّة، وغامر بما تبقى له من رصيد أخلاقي في ذمّة الأمم. والآن يريد، ولكن ما يريده خارج كل الحسابات، ومغاير لكل ما هو متداول حول اليوم التالي في الشرق الأوسط، ومواصفاته. إنه المراهن الدائم والمستمر على التطرف، والأنظمة المتطرّفة، والفصائل المتطرفة، والخيارات المتطرفة. هنا باب رزقه، وحقل اختباراته واستثماراته، ومنجم ذهبه، ومنبت أحلامه وطموحاته. لم يفكّر يوماً أن تكون المنطقة مزدهرة لأهلها، بل أن تكون له أولاً، وما يتبقى منها لأهلها!

ولم يعد مهمّاً أن تعدّد قارئة الفنجان مواصفات اليوم التالي، طالما المنجّم الأكبر يقرأ فنجانه جيداً على مستوى المنطقة، فرّق تسد. جزّأ المجزأ، قسّم المقسّم.. ومن لا يعجبه فليبلّط البحر!

 جورج علم 

Leave A Reply