فلسفة الدين والحب.. بقلم الشيخ ربيع قبيسي

الحبّ كلمة من حرفين، حاء وباء اختصرت معاني العلاقات السامية، بل هو قوّة عظيمة تربط الناس وتجمع القلوب، وبه تتجلّى الصفات التي تجعل الروح صادقة ومرهفة وترسم أجمل المشاعر الروحية؛ السعادة والتعاطف والتضحية والتسامح.

الحبّ بمعانيه الراقية وأحرفه الرقيقة جعل للحياة معنى وجماليّة، فأجمل ما يعيشه الإنسان ويجعله يتخطّى المواقف والمطبّات والأزمات هو الحب، حبُّ الله يجعلك تخاطب الخالق الذي سخّر الدنيا لأجلك، وتحبّ العائلة التي تنسى أحزانك بوجودهم قربك وتحبّ الوطن الذي تنتمي إليه وتحب الأرض التي زرعت روحك ودمك بين ترابها لأجل بقائها.

قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): هل الدين إلا الحب؟! إنّ الله عزّ وجل يقول: ” قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله “

أحبتي ..

يتميّز الإنسان بقدرته على الإختيار، والتمييز بين العناوين المختلفة، ممّا يجعله كائناً عاقلاً في عالم الوجود، ويستطيع استخدام العقل في كل مراحل حياته للوصول إلى الحقيقة، والعمل ضمن ميزان الدنيا والآخرة ..

لذلك هو قادرٌ على بناء العلاقات مع الآخرين، والإرتباط بالبعد الغيبي مع الله، ولا يكون ذلك سهلاً إلا من خلال الحب، الذي تتجلّى معانيه في سيرته وسلوكه، فالله هو الحبيب الأول. يقول الإمام محمد الباقر (عليه السلام): الدين هو الحب، والحب هو الدين، والنبي محمد (ص) هو حبيب الله، وهي أعلى مراتب النبوّة في الوصف والقرب، من حيث الطاعة لله، فقد كان من الأنبياء من هو خليل الله .. وكليم الله .. وروح الله، لكنّه جلَّ وعلا خصَّ نبيَّه محمد (ص) بالحب فكان حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وآله.

الإنسان خُلق لأجل التكامل في الوصول إلى الحق، والحب وسيلة العاشق الذي لا يخرج عن دائرة التفاعل الروحي والنفسي مع الخالق والمخلوقين. فكيف يمكن للإنسان أن يعيش الحب، وأن يكون محبوباً وينطلق من الحب والمودة إلى فهم الدين وطاعة الله، يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): قال الله تبارك وتعالى: ما تحبَّب إليّ عبدي بأَحبّ مما افترضت عليه. وكذلك انعكاس حبّ الإنسان لله حبُ عيال الله وحبّ مخلوقاته، فقد قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): اللهم إنّي أسألك حبَّك وحبَّ من يحبّك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد.

إنَّ السعي نحو فهم الدين والثقافة وحركة الإنسان من الصعب أن يكون بدون الحب، فمن لا يملك القدرة على الحب لا يملك القدرة على التفاعل والعطاء، وكسب الأحبة. فكيف تكون ترجمة معاني الوجود مع واجد الوجود وجوهر الحياة وطريق العشق للواجد دون خوفٍ أو هروب، وكيف يرتقي الإنسان في مراتب الحب؟ حتى الوصال والذوبان في ذات وجود الله؟ أسئلة كثيرة وإشكاليات تطرح، من الصعب الإجابة عنها في مقال مختصر. لكن يمكن لنا تسليط الضوء على بعض الجوانب في فهم فلسفة الحب من خلال الدين وجوهر الإرتباط بينهما، وهل إذا كان الكلام عن الحب يعني أنَّ المتكلم بعيد عن الدين، الثقافة، الطاعة، التواصل مع الناس، والأهم هل لحديث الحب وقت، وزمان ومكان؟

إنَّ علاقة الإنسان مع الله هي علاقة حب، وعلاقة الإنسان مع الآخر علاقة حب في أبعادها الفلسفية والحقيقة، وقد سعى أنبياء الله تعالى من خلال الحب إلى بيان توحيد الله وطاعته، والدعوة له والإخلاص في عبادته، حيث أنَّ العبادةَ ضربٌ من ضروب الحب، ولحظات سير وسلوك نحو المعشوق الأبدي، تتمثلُ في مقامات التوبة، الورع، الصبر، التوكل والرضا. وتنتقل إلى القُرب، والرجاء، والشوق، والأنس، والإطمئنان، والمحبة والمشاهدة.

من هنا نرى الله في رسالات الأنبياء هو مصدر الحب الحقيقي، والإنسان كمخلوق محدود القدرات والمعرفة والقوّة، يُعبّر عن محبته لله من خلال العبادة و يسعى للوصول إلى رضاه واتّباع تعاليمه، من خلال حالاته وسيره نحو الحق والحقيقة، وتتضمَّن هذه العلاقة تحديد الغاية النهائية للإنسان من خلال وجوده.

فمع الله لا مجال للخوف وإذا كان الحبّ طريقَ الوصول، فهو أسهل طريقة نحو الحق حتى يرتقي الإنسان بحبه دون خوف، يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): الحب أفضل من الخوف، فالخوف ينجلي بعد الحب ومن يحب لا يخاف.

جاء في حديث المعراج: يا محمد! وَجَبَت محبتي للمتحابّين فيّ، ووَجَبَت محبتي للمتعاطفين فيَّ، ووَجَبَت محبتي للمتواصلين فيَّ، ووجبت محبتي للمتوكّلين عليَّ، وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية، وكلما رفعت لهم علماً وضعت لهم علماً. إنّه ليس من العيب أن يتكلّم الإنسانُ عن الحب، فالله أمرنا بذلك وهيَّأ في قلوبنا القدرة عليه، ولا زمان مخصص ولا مكان له، فالحب ليس حزناً وفرحاً، ولا عيباً وخجلاً، ولا يكون في السر بل جماله أنّه في العلن، وعندما نقدر على الحب يمكن لنا إيصال الدين والرسالة وتفعيل الثقافة، وحلَّ النزاعات، وإحياء أمر الله وأوليائه ورسله وأئمته عليهم السلام.

إنّنا نخرج في الحب من الأنا والأحكام المُسبقة والتهكم والأذى، إلى الطاعة والرحمة والولاية، والإيمان، لنكون على قدر ما أراد الله تعالى من استخلاف الإنسان في الأرض، بسم الله الرحمن الله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) صدق الله العلي العظيم.

إنَّ الإنسان يحمل أمانة الله، وأمانة الله فيها الحب، والدين صراط للوصول، فالحب دين حيث *يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): وهل الدين إلا الحب.

فهل يمكننا أن نحب؟ نعم بكل تأكيد .. فالله خلقنا وخلق الحب، ولكن كيف نحب؟ من أمرنا الله بحبِّهم بعد حُبِّه، وفي أي مكان؟ في كل مكان لا يُعصَى فيه الله.. ومن نحب ؟ كل من حمل أمانة الله واستخلفه في الأرض ليكون خليفته!!

الجواب دائماً: إنَّنا نحب في الله ولله ويمكننا أن نحب من خلاله كلَّ شيئ، ومختلف الأشكال التي أرادها الله لنا جميلة، والأهم أن نعرفَ لماذا نحب؟! لأنَّنا عيال الله المأمورين بالطاعة، ولأنّنا آيات الله في خلقه ولأنّنا نحبّ في الله ونبغض في الله، ولنا في محمد وآل محمد أسوة حسنة وسيرة طيبة من الحب والحب والحب حتى ينقطع النفس.

سأبقى أحب وأردد وأقول خلف إمامي وسيدي الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام): اللهم إني أسألك أن تملأ قلبي حباً لك، وخشية منك، وتصديقاً لك، وإيماناً بك، وفرقاً منك، وشوقا إليك.

انطلاقاً مما روي عن أئمة أهل البيت(ع) القدوة الحسنة بالسيرة والعمل فهم أرقى من عاش الحبّ ومَارَسَه وتكلّم عنه، وعملاً برسالة الأنبياء والأوصياء الذين عبدوا الله حبّاً به، وعاشوا هذا الشعور النبيل الذي جمع القلوب.. سوف أسعى إلى نشر الحب مهما كان التعليق سلبياً ممن لا يُجيدونَه، واتّحدت من خلال الحب عن بناء العلاقات الإجتماعية، والرحمة الإلهية، وإعلموا أنه يمكننا بكلّ قوّة وإيمان أن نعيش الحبّ ونظهره عكس ما وصلنا إليه من أخطاء شائعة جعلت الحرب مباحة والقتل مباح والشر مباح، والتعبير عن الحب حرام، والكراهية مشروعة والتعامل بحبّ ضعف واستسلام.

أن نربّي أجيالنا وأبناءنا على الحب والمحبّة والتعبير دون خجل هو مشروع الله، فالحبّ مشاعر صادقة وجدت لتجعل في النفس البشرية إنسانية البقاء والإستمرار والتضحية والتسامح والسلام.

ولكم أحبتي كل الحب والسلام، وسلامي إلى من علمني أن أحب في عالمي .. إلى إمام السلام والحب السيد موسى الصدر.

بقلم: الشيخ ربيع قبيسي

[باحث وكاتب في العلوم الإجتماعية، وعلم الإجتماع السياسي، والعلاقات الإسلامية المسيحية]

صور في ١٥/١٢/٢٠٢٣

Leave A Reply