سعر الصرف ينتظر رياح التغيير السياسي والإصلاحي… فأيّ مصير لليرة؟

سلوى بعلبكي – النهار

يترقب اللبنانيون بحذر شديد ما سيؤول إليه مشهد سعر الصرف في الايام المقبلة، في ظل التطورات التي يمكن أن تطرأ إثر عملية انتخاب رئيس الجمهورية خصوصاً أن البعض يتخوف من أحداث أمنية قد تقلب المشهد رأساً على عقب. حتى إن البعض ذهب الى حد القول إن دولار ما قبل 14 حزيران ليس كما قبله، وإن سعر الصرف سيشهد تطورات دراماتيكية قد تطيح ما بقي لليرة من كرامة.

لا شك في أن استقرار سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية منذ ما يقارب ثلاثة أشهر تقريباً خلق فعلياً ارتياحاً ملموساً في الأسواق عموماً، لما لذلك من أهمية ملحوظة على استقرار الوضع المعيشي للمواطنين خصوصاً، إذ إن تأرجح قيمة سعر الصرف بين الصعود والهبوط يؤثر تأثيراً مباشراً على قرارات المواطنين على الصعيد الاستهلاكي والتجاري والاستثماري، فضلاً عن تآكل المدخرات والسيولة من العملة المحلية، واضطراب أسعار السلع والمواد الاستهلاكية، وهو ما يفتح الباب بدوره أمام المتلاعبين بعملية التسعير. فما العوامل التي أسهمت في استقرار الدولار في هذه الفترة، وهل الاستقرار موقت؟

مصادر مصرف لبنان أكدت لـ”النهار” أن “المركزي” استطاع أن يحافظ على استقرار سعر الصرف من خلال منصة “صيرفة” التي تلبّي حاجة السوق من الدولار بمعدل 100 مليون دولار يومياً من دون التأثير على الاحتياطي الإلزامي، إضافة الى الإجراءات التي اتخذتها وزارة المال بالتنسيق مع مصرف لبنان بـ”شفط” الكتلة النقدية من السوق على خلفية القرار بتسديد بعض الضرائب والضريبة على القيمة المضافة نقداً بدل الشيكات بما خفّف من الضغط على الدولار، إضافة الى عامل مهم يتعلق بتشديد مراقبة مصرف لبنان على تجارة الشيكات والمضاربة على الليرة، وقد يكون توقيف القوى الأمنية للمضاربين أسهم أيضاً بلجمهم. وتوقعت المصادر أن يحافظ سعر الصرف على استقراره خصوصاً إذا بقي الوضع الأمني ممسوكاً بالحد الأدنى، حتى إنه يمكن أن ينخفض قليلاً إن كانت الظروف مساعدة سياسياً وإصلاحياً. وفيما يتخوف البعض من ارتفاع سعر الصرف بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، تؤكد المصادر أن كل ذلك يعتمد على ما إن كان المجلس المركزي لمصرف لبنان والحاكم الجديد سيستمر بالسياسة التي ينتهجها الحاكم بالنسبة لصيرفة وامتصاص السيولة وضبط تجارة الشيكات، وهي سياسة نجحت برأي الخصوم قبل المؤيّدين.

أشهر مصيرية قد تقلب المشهد!

ثمة عوامل عدة أسهمت في لجم واستقرار سعر الصرف خلال الأشهر المنصرمة، وفق ما يقول الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو. أول هذه العوامل هو “القرار السياسي المتخذ بضرورة تهدئة الأسواق بعدما وصل سعر الصرف إلى مستويات قياسية، والطلب من مصرف لبنان التدخل في سوق القطع من خلال تفعيل منصة صيرفة عبر شراء المركزي الدولارات من السوق ومن ثم بيعه مجدداً عبر المصارف ضمن هوامش ضيقة. ولكن ما يختلف اليوم عن التدخلات السابقة للمركزي لناحية قدرته على تأمين استقرار أكثر استدامة في سعر الصرف، يكمن أولاً في توافر العملة الخضراء بكمية أكبر في السوق ولا سيما خلال فترة عيد الفطر، ومع توافد اللبنانيين المغتربين والسياح من بعض الجنسيات مع بداية موسم صيفي وسياحي واعد. ثانيها، دخول لبنان في مرحلة الدولرة الشاملة وفقدان الليرة اللبنانية دورها نسبياً كأداة للتداول، بما أدخل الدولار الأميركي فعلياً ضمن الدورة الاقتصادية، وتالياً لم يعد محصوراً فقط في أيدي الصرّافين وتجار العملة والمحتكرين والمضاربين، بل بات اليوم في متناول أيدي شريحة واسعة من اللبنانيين من التجار وأصحاب المهن الحرة وأصحاب المحالّ التجارية بمختلف أنواعها، فضلاً عن جزء لا بأس به من موظفي القطاع الخاص، وهو ما يعني طلباً أقل من جانب هؤلاء على الدولار عند أبواب الصرافين والمضاربين خصوصاً. أي باختصار، فإن ما يسهم فعلياً اليوم في تدعيم هذا الاستقرار في سعر الصرف هو توافر العملة الخضراء في السوق توازياً مع غياب المضاربة، وهو ما عزز بدوره منصة صيرفة وقلص تالياً الهوامش بين سعر صيرفة وسعر السوق الموازية”.

الاستقرار الراهن في سعر الصرف جاء برأي قانصو، “على الرغم من تضخم الكتلة النقدية بالليرة (م1) بحدود 25 ألف مليار بين شهري نيسان وأيار، وذلك بعد تراجع بقيمة 15 ألف مليار ليرة في شهر آذار نتيجة تدخل “المركزي” لامتصاص الليرة من السوق، بما يعني وفق قانصو “ارتفاعاً صافياً بنحو 10 آلاف مليار ليرة منذ إعادة تفعيل منصة صيرفة حتى نهاية شهر أيار، وهو بطبيعة الحال ناجم عن عمليات الطبع المستمرة لليرة لتمويل حاجات الدولة ولا سيما رواتب موظفي القطاع العام، على الرغم من رفع سعر صرف الدولار الجمركي لتأمين إيرادات إضافية من أجل تغطية النفقات الضرورية وتمويل أجور القطاع العام وفق مراسلة رئيس الحكومة الموجّهة إلى وزير المال إبان اتخاذ قرار رفع الدولار الجمركي”. وكان قانصو قد حذر عبر “النهار” من أن رفع الدولار الجمركي بشكل صاروخي وعشوائي دون أي تدرج ومع غياب فاضح لأي دراسات كافية من المعنيين لتقييم تداعياته المرتقبة على كافة جوانب الاقتصاد الوطني، يؤدي إلى ضرب عائدات الخزينة من الإيرادات الجمركية التي قد تكون أقل من المتوقع بالمقارنة مع ما تعوّل عليه الدولة من إيرادات عامة في موازنتها لتمويل نفقاتها عموماً وذلك مع تعزز التهرب الضريبي عموماً.

فهل يمكن أن يشهد سعر صرف الدولار ارتفاعاً في الفترة المقبلة؟ يتوقع قانصو أن يبقى استقرار سعر الصرف مستداماً خلال فصل الصيف الواعد، ما يعني أن توافر العملة الخضراء في السوق مستمر خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وذلك إذا بقي الوضع على ما هو عليه ولكن دون أي خضّات سياسية وأمنية، وشرط أن يستمر مصرف لبنان في تدخله في السوق حتى بعد انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة من الحاكمية وبقاء المنصب شاغراً، وهو ما تم الاتفاق عليه حتى الساعة، وإلا فإن التفلت في سعر الصرف قد يكون سيد الموقف مرة أخرى. أما إذا نجح لبنان في إتمام تسوية سياسية تعبّد الطريق أمام الاستقرار السياسي والأمني، وهو ما سيحصل في نهاية المطاف، انطلاقاً من انتخابات رئاسية يليها تشكيل حكومة سريعاً، فيتوقع قانصو أن “يشهد سعر الصرف تحسناً إضافياً في المرحلة الأولى، يليه تحسن أكثر استدامة في المرحلة الثانية، ولكن شرط أن يترافق ذلك مع إجراءات إصلاحية وإطلاق برنامج إنقاذ شامل يؤمن الاستقرار الاقتصادي المنشود والقادر على إخراج لبنان، إذا صدقت النوايا طبعاً، من فخ الركود التضخمي في غضون بضعة أعوام نظراً لجحم الاقتصاد اللبناني المنكمش والصغير نسبياً، وذلك بالتوازي مع استقرار مالي ونقدي من شأنه أن يوحّد أسعار صرف الدولار مقابل الليرة عند مستويات معقولة”. أما إن كان المشهد السياسي والإصلاحي مغايراً لما هو متوقع، فإن “أي تحسن مستجد في الأساسيات الماكرو اقتصادية والمالية قد ينحسر سريعاً ويعاود مسار التفلت في سعر الصرف دون سقوف ليطغى على المشهد الاقتصادي والمالي والنقدي عموماً”.

ويبدو قانصو متفائلاً بأن “رياح النهوض الاقتصادي آتية إلى لبنان لا محالة وإن بعد حين، فالبلاد على ما يبدو باتت في آخر نفق الأزمة، وإن كنا قد نشهد بعض العوامل المفرملة بين الحين والآخر قد تؤخر خروجه من النفق المأزوم”. ويضيف أن “من الواضح أن الاقتصاد الوطني بلغ حجمه الطبيعي نسبياً، وتالياً فإن تعويمه لا يتطلب سوى التركيز على المثلث الذهبي القائم على القرار، التنفيذ والثقة، أي اتخاذ القرارات المناسبة للإصلاح، المباشرة في تنفيذ الإصلاحات، واستعادة الثقة بالوضع الاقتصادي والسياسي والحكومي وثقة المغترب اللبناني والمجتمع الدولي والتأسيس لنهج اقتصادي جديد، وإلا فإن الضوء في آخر النفق قد يتلاشى شيئاً فشيئاً وفترة الخروج من النفق قد تطول أكثر فأكثر. فإما الإسراع في وضع عربة البلاد على سكة الخلاص الاقتصادي والمضي قدماً أو قد يكون القعر ملاذنا الأخير في المرحلة المقبلة”.

Leave A Reply