باريس والرياض: الرئاسة على النار

نبيل هيثم – الجمهورية

لو نطقت الصورة التي التقطت لنواب الخلوة في بكركي، لصرّحت بلا تردّد بأنّ لمّ شمل هؤلاء النواب تحقق فقط أمام عدسة الكاميرا. صورة لا تعبّر عن الفجوة، لا بل الأصح عن الفجوات العميقة الفاصلة فيما بينهم، ولولا هيبة البطريرك بشارة الراعي، لما تردّد بعض نواب الخلوة في أن يهربوا من الكادر.

إنفَضّت الخلوة وقفلوا عائدين كلّ الى متراسه، ولمّ الشّمل الذي أراده البطريرك لم يتمّ لا بالجملة ولا بالمفرق، وغضبه صَبّه في مجموعة الاسئلة التي أسقطها على رؤوسهم من دون ان يجرؤ اي منهم على ان يأتي بجواب على سؤاله الذي لم يبرىء احداً منهم من دم الرئاسة المهدور على مذبح التعطيل: ماذا فعلتم لتسهيل انتخاب رئيس الجمهورية ؟

الخلوة على رمزيتها وأهميّتها بالنسبة الى البطريرك، مرّت مرورا عابرا على المشهد الرئاسي، لم تنحرف في الاتجاه الذي أراد ان يُبنى عليه لتضييق الفجوات القائمة، بل اقصى ما حققته انها أعادت تظهير الموقف من رئاسة الجمهورية، مشتتا بين مختلفين حتى النخاع في المقلب المسيحي، وعطفاً على ذلك، بينهم وبين سائر المكونات السياسية من الطوائف الاخرى.

ليس خافياً على احد أنّ الرهان على أن تتمكن الكتل المسيحية الكبرى من أن تتآلف وتتلاقى على قاسم رئاسي مشترك، هو رهان ساقط سلفاً، فـ»القوات اللبنانية» على شرطها الثابت برئيس كامل الدسم السيادي، ومن دون ذلك لن يستطيع أحد أن يدخل الى القصر الجمهوري، هذا ما قاله رئيسها سمير جعجع. والتيار الوطني الحر شرطه الاول والاخير رئيس برتقالي الهوى والهوية يتمتع بمواصفات رئيسه جبران باسيل ووفق ما يسمّيه برنامجا اصلاحيا تغييريا.

لا شروط تعلو على شروط «القوات» و«التيار»، ولا رئاسة جمهورية دونها، فتلك الشروط تشكل الممرّ الالزامي لكسر الفراغ الرئاسي، هذه هي قناعتهما، لا بل الأصح، هذه هي عدّتهما التي يبدو انهما لا يملكان بديلاً عن اتخاذها نقطة ارتكاز لاستنهاض شعبية متهاوية او مترددة في الشارع المسيحي، عبر اللعب على اكثر الاوتار السياسية حساسية تحت عناوين مختلفة على شاكلة هوية الرئيس السياديّة او التغييرية، وصلاحياته وحقوق المسيحيين.

قد تجد هذه الشروط مَن يتفاعل معها في ملعبه الحزبي والسياسي حصراً، والنبرة الواثقة التي تُطرح فيها لا تغير في حقيقة انها تتجاوز او تُنكر ما هو سائد على ارض الواقع، التي تؤكد بما لا يرقى اليه ادنى شك انّ مفعولها محدود ضمن هذه البقعة الضيقة قوّاتياً او برتقالياً، ولا تمتلك بالتالي قدرة السريان والتفشي في الملعب اللبناني بصورة عامة، وإلزام سائر الاطراف بالعمل بمقتضياتها وموجباتها. وبالتالي، فإن هذه الشروط تصطدم بكونها غير قابلة للصرف في المقلب الآخر، وحتى مع الاطراف التي قررت في الزمن السياسي الحالي ان تشمّ الهواء السيادي والتغييري. وتبعاً لذلك فإنّ الرهان على ان تتمكن «القوات» و«التيار» من ان يتوصّلا بسهولة الى قاسم رئاسي مشترك مع سائر المكونات السياسيّة هو رهان أسقط مسبقاً من حسبان جميع الاطراف.

في الشكل، يبدو انّ الداخل بات مرهونا لاصطفافات سياسية سدّت كل المنافذ المؤدية الى انتخاب رئيس للجمهورية، وجعلت البحث عن منفذ الى توافق داخلي، إجراءً عبثيا وهدرا للوقت، خصوصا ان بعض النافخين في تلك الاصطفافات يرون في تعطيلهم انتخاب الرئيس، وتلويحهم العلني بمنع انعقاد اي جلسة انتخابية تتوفّر فيها حظوظ مرشح لا تنطبق عليه شروط «القوات» و«التيار»، تسهيلاً (بين هلالين) لانتخاب رئيس يلبّي طموحات اللبنانيين، وهي ذريعة كاريكاتورية تُعاكِس ابسط قواعد المنطق والواقعية. ما يدفع الى طرح السؤال التالي: هل سيستمر الحال على ما هو عليه، وهل تملك الشروط قدرة الاستمرار في التحكم بالملف الرئاسي، وتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية؟

ثمة صورتان، يتأرجح فيهما الملف الرئاسي بين المستحيل والممكن؛ تعكس الأولى ان المشهد الداخلي المعقد بلغ نقطة اللاعودة في «عداواته» ويستحيل مع استفحالها ان يُخرق بتوافق على رئيس، حتى ولو كان هذا التوافق يُنجّي الرئاسة والبلد من طوفان يجرفهما. ولعل ابلغ توصيف للواقع الداخلي، ورد في مقاربة طريفة لأحد ظرفاء السياسة الداخلية، إنما هي في جوهرها بالغة الدقة والدلالة، وفيها: «انّ بناء مساحة مشتركة بين التناقضات السياسية، لا يتطلب كاسحة ألغام او كاسحة جليد، بقدر ما يتطلّب كاسحة للافاعي التي تتحيّن الفرصة للانقضاض على بعضها البعض، وتعمل لسعاً لبعضها البعض. ولكن، كيف يمكن ان تنتظر الترياق والسمن والعسل الرئاسي من جحر الافاعي».

امّا الصورة الثانية، فتؤشر الى أنّ إحداث انقلاب في الواقع القائم امر ممكن وليس مستحيلاً، ويبدو انّ الخارج الصديق او الشقيق الذي هو على بيّنة كليّة من دقائق المشهد الداخلي وتفاصيله، وعلى إدراك تام لكلّ الشروط التي تطرح من هذا الطرف السياسي أو ذاك، قد أخذ على عاتقه هذه المسؤولية تحت عنوان «مساعدة لبنان في إتمام استحقاقاته الدستورية». وأمّا النتائج الملموسة لحركة الجهود الخارجية، وعلى وجه الخصوص الفرنسية السعودية، فلن تتأخر في الظهور، وقد تفاجىء الجميع؛ هذا ما يؤكده ديبلوماسيون مطلعون على تفاصيل حركة الجهود التي تكثفت مع اجتماع الدول الخمس، وما تلاها في لقاءات في باريس، مخالفين بذلك جذرياً المبالغات والافتراضات التي سبحت وما تزال تسبح خارج صحنها، ودأبت منذ انطلاق هذه الحركة على إلباس فرنسا والسعودية مواقف لا علم لهما بها، على ما جرى مع السيناريوهات الخيالية والمتخبّطة في الاوهام، التي رافقت زيارة الوزير سليمان فرنجية الى قصر الايليزيه، وقارَبتها كزيارة فاشلة، فيما المعطيات الجديّة تؤكّد أنّها خلاف ذلك، الفرنسيون كانوا مرتاحين، وكذلك فرنجية!

من هنا، وعلى ما يقول مواكبون للمسعى الفرنسي الفرنسي، فإنّ تشكيك بعض مكونات الداخل اللبناني بإمكان نجاحه، وكذلك نوبة الانفعال غير المبرّرة التي أبداها بعض هذه المكونات تجاه الموقف الفرنسي تحديداً، لا يغيّران في حقيقة انّ إنضاج الطبخة الرئاسية على النار الفرنسية السعودية الحامية.

بعض المستويات السياسية تلقّوا إشارات تلفت من جهة الى أنّ الفرنسيين انتابهم الغضب حيال التعاطي اللامسؤول من قبل بعض الساسة اللبنانيين مع الجهد الفرنسي، وتسرّعهم في التشكيك به، في الوقت الذي تنطلق فيه باريس ممّا تعتبره الروابط التاريخية مع لبنان، لتمنح وقتها الثمين تجاه ما تعتبره مصلحة للبنان وفتح نافذة الامل للبنانيين في تخطّي أزمتهم. وتؤكد من جهة ثانية انّ باريس ماضية بزَخم مع السعودية وسائر اصدقاء لبنان لمساعدة اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية واعادة انتظام مؤسسات الدولة.

وعلى ما يؤكّد مطلعون، فإنّ ما يؤسّس له الفرنسيون والسعوديون، ومن خلفهم سائر دول الاجتماع الخماسي، لن تكون نتيجته منعزلة على الاطلاق عمّا تشهده المنطقة من تحولات وتفاهمات عربية وإقليمية وإطفاء لنقط التوتر والاشتباك، ولعل اهمها الاتفاق السعودي الايراني، الذي أحدَث انقلابا حقيقيا، حوّل أعداء الامس الى اصدقاء وحلفاء اليوم. وآخر محطاته التي ينبغي التعمّق فيها تجلّت في اجتماع وزيري الخارجية السعودية والايراني برعاية صينية في الصين خلال الساعات الماضية، وما تخلله من توقيع مجموعة اتفاقيات ثنائية، ولعل اهمها إحياء التعاون في المجال الأمني.

فهذا الاتفاق، على ما يقول المطلعون، ينبغي التمعّن فيه ملياً، خصوصاً من قبل حلفاء السعودية وايران في لبنان، حيث ان الصورة لا تستقيم مع طرفين لدودين قررا ان يأكلا عنب التفاهم والتوافق في الخارج، فيما حلفاؤهما في الداخل اللبناني يأكلون الحصرم ويضرسون. لذلك فإنّ ما يسري على الخارج، سيسري بالتأكيد على الداخل ولو بعد حين، وساعتئذ لن يبقى امام تناقضات الداخل سوى البحث عن وسيلة للنزول عن اشجار شروطهم والالتحاق بالقافلة، ولو رغماً عنهم.

Leave A Reply