“قصائد غير منشورة” لخليل حاوي: قتيل الشعر

الدكتور قصي الحسين

لا تستطيع أن تقرأ قتيل ال#شعر#خليل حاوي، سواء في دواوينه السابقة، أو في الديوان الأخير “#قصائد غير منشورة“، (#دار نلسن– مؤسسة أنور سلمان)، إلا بعد أن تسلم أن الشاعر فضل المعراج على المهبط. على الهبوط.

خليل حاوي شاعر لا يعرف إلا التورط في التعب اليومي، وفي الحزن اليومي، وفي الألم اليومي. لهذا ربما، نراه دائما يفضل العروج على الهبوط، كأنه رفض العيش في القيعان، التي استهوت أهلها، فانتصر بإرادته على المعادلة الصعبة. نفض عن كتفيه غبار التراب، وعرج صامتا في ليلة دهماء، إلى حيث تجلس الروح في معراجها. فلا أسياف كليلة. ولا أنفاس متثاقلة. ولا أجنحة متخاذلة، وإنما الروح المتوثبة التي في إنائه، أطلقها، ففرت من عينه اليمنى، وعرجت إلى مستقرها، حيث الروح والحرية صنوان: “يا صبية/ زحفت يداك/ عادت إلي العاصية/ صبية مكتهلة/ في منزلي/ الغائب/ كنت ألقاه/ لست أدري/ إفصاح/ إغتصاب بلا دنس/ طبع القدر/ بلد القلوب الموصدة/ ركام/ عريق”.

كان من الضروري، أن نعرف عند خليل حاوي البدايات، العتبات، الخطوات، وخصوصا الأولى منها. فأولى بنا الاستشراف على الاستغراق، مع شاعر نهل من الينابيع، وخرجت من بين أصابعه ماءة الشعر الرقراق المصفى، الذي يخالطه غبار التراب: “أيقين أنها في منزلي/ كيف يخفى ما أرى ما أجتلي/ يمحي ظلي، وظني يغتلي”.

هكذا يقرأ خليل حاوي، بعد نصف قرن على غيابه، وهو واقف يرسم العتبة، ويهندس الخطوة، ويصفي العسل في الجرار. أو هكذا يريد أن يذيقنا الشعر في جراره الغائرة في قعر الروح، قبل دبيبها على الأرض، وقبل معراجها إلى السماء: “بلد القلوب الموصدة/ بلد تحول عزمه/ غلا يغور ويبتني/ في كل قلب موقده”.

نحن مع خليل حاوي في فعل الدهشة، إنما ننصت إلى الرنين: “عاينت في الوجوه/ وجه صبي يحمل العمر الذي/ أتلفه أبوه”. الحروف التي ترن على عتبات الشعر، حقا هي أقوى من الشعر المسجى في الدواوين. حقا، هي أقوى من الشعر القتيل: “كنا جدارا يلتقي جدار/ ما أوجع الحوار/ ما أوجع القطيعة/ تغص بالفجيعة/ ما أوجع الحوار”.

لماذا تستهوينا إذا، هذه المجموعة من القصائد غير المنشورة عند خليل حاوي، في الديوان الأخير؟ نهرب من هذا السؤال العالق في أنفسنا، لنكون أمام سؤال جديد: هل الشعر، إلا بداية الطريق إليه؟ فكيف نهتدي إلى الشعر، إذا لم نتلمس أنفسنا، بأنفسنا؟ إن لم نتلمس خيط الدهشة في عتاباته الأولى، حيث مستودع الأمانات: “شو قولكم؟ هالدرب كلا طلوع/ وما زال بعدو نهار/ ما زال نمشي وكل ساعة قطوع؟- شد حيلك عالتعب والجوع/ ما عاد في مهرب ولا في رجوع/ سلاحك عجنبك/ والرفاق كتار/ وبكير رح تقفوا الجبل، بكير/ وخلف الجبل بتصير/ الدرب مرجة والورود غمار”.

يستودعنا خليل حاوي في هذا الديوان، بعض روحه حين تنزلت للبيات في الأبيات. تلك هي ليلة بيضاء. كان الغمام يهل مع الفجر اللجين في كاسات الشعر، ويسكبها في إناء خليل حاوي الطويل، حتى الرسولية، ومعراجه الأخير. فنحن نقر اليقين الذي أقره، ذات عين قرأت. ذات عين أطلقت. ذات روح عرجت. ذات سماء، كانت تستقبل الأنبياء، دفعات دفعات: “وجوههم وجوههم/ تطل من أصفارها المدورة/ تحيط بي مركومة مكررة/ تغزو ركام المهملات/ ما فات غربال الرواة”، “لست أدري/ كيف تصفو أسطري/ صفوة الوهج الطري/ أتراها انسكبت/ من دفقة الينبوع/ لفظا ومعاني؟/ أم ترى صفيت لفظا ومعاني؟ عبر عصر يتمطى ويعاني/ ما يعانيه اجترارا/ في اجترار/ دون طعم الملح/ أو طعم البهار؟”.

الشعر عند خليل حاوي في أجرانه، تجاوز، تجاور، يستدعي قصب الروح للعزيف. لا شيء في روحه المسكوبة ندى غيمة حبلى به، إلا الفرح والبكاء، إلا فرح البكاء. كيف يمضي الشعر إلى مستقره في ركن الروح. ثم كيف، إذ هو يعرج بها إلى السماء المطبقة، كطلقة عين من فوهة، تصوب الشعراء، أن يعرجوا بأرواحهم، إلى حيث هو في معراجه. يقول لهم الدرس المبتدأ. يقول لهم الدرس الأخير: “كانت تطل عليَّ/ من أمسي/ وتطلع من غدي/ تحنو تطيع/… كنت الشفيع/ وكنت قلبا يكتوي/ بضراوة حرى/ ويعصى المغفرة”.

خليل حاوي، قتيل الشعر. بعض تجليات هذا الديوان الأخير له، ثمة موت يومئ فيه، حين انبثق من ينبوعه، في عتبات الروح المشرئبة، مثل غابة من بكاء. طفل ضاع في غابة الشعر. ظل يبكي يومه حتى اهتدى. خليل حاوي، طفل من بكاء. كل القصائد المبتدئة، صرخة طفل. يخرج من رحم الظلمة الأولى، من رحم الطلقة الأولى، إلى طقس الضوء، إلى طقس الضياء، ثم ينفجر بالبكاء: “جسد دون غلاله/ حوله ذابت متاهات المدى/ ومتاه الظن ما خلف المدى/ وصدى الأمس وغصات الصدى”.

نحن إذا، أمام بكائيات خليل حاوي الأولى. أمام صرخته الأولى. قبل شوط قطعه. قبل طلقة. قبل قطرة. قبل عين تنفجر، نبعة من دماء: “كنت ألقاه/ غريبا غائبا/ يحتله ما لا أراه وأراه/ جسد ينصب/ من صحو رؤاه”.

قتيل الشعر هو. ظل يحفر فيه حتى الكنوز في جرار الروح، حتى الشهادة، كما الأنبياء، يكتبون بأرواحهم قلائد الولادات، تعلق تمائم في أعناقنا، مدى الدهور، فعل شعر، فعل شاعر، فعل ينبوع فاض، ذات غيمة من السماء: “تحيط بي/ مركومة بالمهملات/ تحيط بي مكررة/ أبخرة معجون/ في أبخرة/ من ضحكتي المزمهرة/ وضحكتي المدمرة”.

النهار

Leave A Reply