ضيعة ساحرة كان اسمها بيسان: ملامح وإيقاع الحياة في عروس الأغوار الفلسطينية

وديع عواودة – القدس العربي

بيسان الضيعة الخصبة الظليلة التي استهوت ذكرياتها قلب فيروز فغنت لها بعدما غنت للقدس، كان أيار/مايو أقسى الشهور عليها هي الأخرى كما يؤكد المؤرخون ويروي أهلها في روايات شفوية تستعيد ملامحها قبل وخلال زلزال النكبة الذي عصف بها في مثل هذه الأيام من العام 1948. يستعيد المؤرخ الراحل جميل عرفات سيرة الناس فيها وفي بناتها المحيطة بها ويورد روايات متعددة المصادر في كتابه «قرى وعشائر بيسان» ويتوقف عند كل منها بما فيها بعض القرى الناجية مثل كفر مصر والطيبة وطمرة.

ويقال في الروايات الشعبية إن نحو ستة آلاف فلسطيني سكنوا المدينة قبيل تهجيرهم منها. الأب الأنجليكاني دكتور نعيم عتيق مدير مركز «السبيل للاهوت الحرية» المقيم في القدس المحتلة هو ابن مدينة بيسان وله فيها ذكريات وافرة قبل أن يشهر الجندي بندقيته في وجهه ويرّحل مع عائلته من منزله. حينما ضرب الغزاة بيسان في 13.05.1948 كان ابنها الدكتور الأب نعيم عتيق في الحادية عشرة من عمره وما زالت تسكنه ذكريات كثيرة حلوة ومرة من ضيعته المفقودة. ويقول لـ«القدس العربي» إن بيسان بلدة صغيرة لكن طابعها مديني لكونها مركزا لمنطقة الأغوار. ويوضح أن فيروز لم تبالغ بأغنيتها الرقيقة عن بيارة جميلة وضيعة ظليلة ينام في أفيائها نيسان. يلتقط الأب عتيق نفسه ويستعيد بعض الذكريات مؤكدا أن الله بارك «الضيعة الشتوية» بينابيع غزيرة استمدت مياهها من جبل فقاعة الفاصل بينها وبين جنين. ويتابع منفعلا «كانت قنوات المياه تسير بين بيوت بيسان وبياراتها وبساتينها الوافرة بالحمضيات والموز والرمان والتين فيما كانت زقزقات الحساسين فيها لا تنقطع كأنها سيمفونية مفتوحة». ويشير لعادات أهالي بيسان بشمات الهواء وبالتنزه على ضفاف هذه الينابيع وأشهرها عين العاصي ومنتجع الساخنة وغيرها من المواقع الطبيعية الجميلة التي بلغها الأهالي بالحناطير. وعن الحياة الاجتماعية يضيف «كنا نعيش مسلمين ومسيحيين أسرة واحدة».

وهذا ما يؤكده الشيخ محمد سرحان، أبو أحمد (92) ابن بيسان المقيم كمهجّر في قرية الفريديس قضاء حيفا خلال سفرنا سوية إلى بيسان حيث استنشقنا عبير بياراتها الجميلة وأزقة ضيعاتها الشتوية الظليلة.

عين الفلوس

وللإشراف على المدينة التاريخية توقفنا في تل الحصن شمال بيسان وهو تل أثري ورد اسمه في وثائق الفراعنة «رسائل تل العمارنة» وفيه اكتشفت 17طبقة أثرية من الفترات اليونانية والآشورية والرومانية والإسلامية. بالطبع بيسان واحدة من المدن الرومانية العشر «ديكا بوليس» وقد هدمها زلزال عنيف في عام سقوط الدولة الأموية 132 هجري/749 ميلادي. وبمحاذاة التل يمر وادي جالود مصدر المياه الرئيسي في المنطقة إضافة لـ «عين الفلوس» أحد أشهر عيون الماء. ولضيق الوقت كرسنا الزيارة للاطلاع على المعالم العربية للمدينة التي ارتبطت بالكهرباء قبل طبريا، عام 1929.

مكاتب الحجازية

وكانت مكاتب سكة الحديد الحجازية المحطة الأولى للجولة في مدخل بيسان الغربي حيث أوضح أبو أحمد معالم المكان: «من اليمين من جهة الشمال بيت أبو العز وأصله أرناؤوطي (بوسني) وكان مديرا للمحطة طيلة فترة الانتداب. من جهة الغرب بيت مفتش المحطة محمد حسن أبو خليل من قومية قضاء بيسان. في الجهة الجنوبية الغربية حاووز المياه وفيه استعمل الطابق الأسفل للحراسة وهو على شكل مخروط وإلى الشرق منه بقايا مراحيض عامة. حجرتان صغيرتان واحدة للنساء والثانية للرجال». وعن ذكريات القطار يقول أبو أحمد «كنت أروح على حيفا وسمخ بالقطار بقرشين ونص أو قرشين» لافتا لسرعته البطيئة. من هناك تجولنا برفقة الشيخ محمد سرحان في الجادة الرئيسية لبيسان، شارع الاستقلال كما سمي قبل احتلال 48 حيث حولت بناية البلدية قبالة سوق الخياطين لمحكمة صلح إسرائيلية.

الطغرى في واجهة السرايا

والسرايا مبنى حجري أسود ضخم من جهة اليمين ضم دائرة البريد القديمة ومن اليسار «الزابطية» في الطابق الثاني جلس مساعد حاكم اللواء والقائم مقام، اسماعيل الفاروقي من الرملة. وفي الناحية العمرانية تعتبر بناية القشلة «السرايا» أهم معلم أثري في بيسان من الفترة العربية- الإسلامية وفي مدخلها تبرز رسمة «الطغرى» العثمانية بجانب اسم السلطان عبد الحميد الثاني ونجمة خماسية. وللغرب الشمالي من عمارة السرايا بأمتار دار سلمان أبو رحمون سكرتير البلدية وقد مات في الناصرة وبجانبه حاووز ماء على شكل طنجرة مرفوع على أعمدة أسمنتية مبني من العام 1942.

وإلى الجنوب من هنا بنحو خمسين مترا عبر شارع ضيق، يعرف اليوم بشارع رحافعام زئيفي غاندي الذي استبدل تسميته الأصلية شرحبيل بن حسناء، وساحة كبيرة ودار بطابقين. تقع دار فؤاد أبو علي بنهاية الشارع وهو تاجر قماش ومات في الشام وأمامها كانت بيوت هدمت بعد النكبة ومن ضمنها دار أحمد السيلاوي وفرن السيلاوي التابع له. وفي شهادته التاريخية النادرة يكشف أبو أحمد أنه في ساحة السرايا زرع بيديه شجرة الظل الكبيرة هذه فاستعاد قصتها وهو تحت ظلالها «كان عنا درس زراعة فطلب مني المعلم أن نخرج مع أولاد الصف عند والدي بستنجي البلدية، كي نطبق درس زراعة وفعلا ذهبنا وقلت لأبي فأعطاني غرسة صغيرة سنة 1944 وها هي أمامك الآن. شوف هياها اليوم شجرة عظيمة». والمفارقة إن الصهاينة جمعوا أهالي بيسان في هذه الساحة حسب تأكيد الشيخ سرحان الذي يتابع «ظل في بيسان ألف واحد تقريبا بعد سقوطها في 13 أيار…ظلينا شهرين. أجا اليهود وجمعونا في ساحة السرايا وقالوا: اختاروا فهذه الباصات واقفة…اللي بدو يروح على الأردن…أو على الناصرة ..أو على جنين. خلال وجودنا بالساحة اكتشفنا إنو الشنطة اللي حطيت فيها مصرياتنا وذهباتنا ظلت بالدار فهربت من الطوق ولقيت الشنطة بساحة الدار بعدها ولما رجعت كان الباص يمشي فتعرضت له وطلعت.. لولا الشنطة كان صرنا شحادين بالشوارع».

مخطط الهغاناه

ويكشف المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في كتابه «1948» مخطط الهغاناه بالضغط على أهالي بيسان وصفد ودفعهم للرحيل ضمن الخطة «د» وبتوصية من قائدها يغئال ألون. ويصف بيني موريس فظاعة قصف المدينة في 11-13 أيار/مايو وعملية تهجير السكان حتى بات مرج بيسان «طاهرا نظيفا وعبريا».

شارع دمشق

وفي شارع دمشق المقابل للسرايا وعلى بعد أمتار منها حولت بناية البريد لمقر الشركة الاقتصادية التابعة لبلدية المدينة التي صار اسمها اليوم بيت شان. وللغرب منها تواصل مدرستا البنين والبنات في بيسان مواجهة الهجران والإهمال منذ سبعة عقود ونصف في انتظار جلبة الطلاب وضحكاتهم عند كل صباح.

بالطبع لم تحظ بناية المدرسة الفلسطينية المهجرة بما نالته جارتها آثار حمامات بيزنطية الأصل ضمن محاولات طمس حقبة هامة من تاريخ بيسان كما في سائر المدن. وحسب روايات شفوية نسوية لأهالي بيسان ظل الحمام يقدم خدماته حتى العام 48 وكان يفتح أبوابه أمام النساء في كل يوم أربعاء متحولا بذلك لناد اجتماعي ومكان للتعارف وملائمة الأزواج. واستنادا للروايات الشعبية فقد اصطحبت السيدات بناتهن معهن للحمام وللإشارة لكون البنت صبية معنية بالزواج فكانت تضع «الخلخال» في قدمها. ويبدو أن حكمة الأمهات هنا ليس في الملتقى والتعرف على العرائس فحسب بل أن المكان أتاح رؤية الصبية على حقيقتها بدون مساحيق تجميل.

المسجد الفاروقي

وبخصوص المسجد المتداعي اليوم يستذكر أبو أحمد قناة ماء كانت ترد على ساحته وإمامه كان الشيخ علي القدومي وابنه فايز، وهو المسجد الوحيد في بيسان أما المأذون فكان محمد صالح العمري. تمتاز بيسان بوفرة مياهها وأحد جداولها كان نبعا من الساخنة، أسماه أهل بيسان العاصي، والوادي يعرف بوادي مردمة، أما الحي الغربي حيث يمر الجدول فهو جورة السوس، لكثرة نبات السوس فيها. وحسب ذاكرة الشيخ سرحان فإن وادي المشرع وهو عبارة عن قناة عاش فيها السمك اصطاده الأولاد وسبحوا في بركة تواجدت في مدخله الغربي، أما في مدخل وادي المشرع الشرقي فتواجدت مطحنة للحبوب تم تشغيلها بواسطة المياه واشتغلت حتى 1946.

باصات بيسان والناصرة

في الجهة اليمنى من الشارع في أول بيسان من جهة الغرب هذه دار صاحب بابور طحين، وللشرق منها دار بطابقين وهي لبطرس قرابيط وتستخدم اليوم محكمة صلح إسرائيلية، طبقا لتأكيد أبو أحمد جازما وتابع: «في اليسار من الشارع عمارة مركز البوليس الانتدابي وبعدها كما هي. ومن ذات الجهة وبمحاذاة الشارع- للشمال من مركز البوليس المذكور دار آدم السالم وكان يملك محطة وقود وشركة باصات بيسان ولاحقا أسس شركة باصات في الناصرة بعد التهجير». ويمضي أبو أحمد باستعادة رواية المكان وكأنه تركه بالأمس: «إلى الأمام شرقا وعلى يمين الشارع هذه دار أبو مجيد التهتموني. دار صغيرة بطابق واحد وقدامها شجرة نخل عالية جدا وكان مزارعا. ولجوارها شرقا ومن ذات جهة الشارع دار أحمد رشيد أبو علي وهو قاض في محكمة الصلح الفلسطينية في بيسان وهي اليوم مقر شركة إسرائيلية كما تدلل عليها لافتة بالعبرية. إلى الغرب منها كانت كنيسة الروم الأورثوذوكس قبل ما يهدموها».

رئيس البلدية

وطبقا لـ «درس الجغرافيا والتاريخ» على لسان أبو أحمد، فغرب المدرج الروماني الذي كان مطمورا بالتراب كانت حارة الذهبي، وقبالتها من جنوب الشارع الرئيسي دار الدكتور إبراهيم حبيبي قرابة الأديب الراحل إميل حبيبي من شفاعمرو، وكان طبيبا يشتغل في بيسان، نصفها أبيض ونصفها أسود. ومن جهة اليمين جنوب الشارع الرئيسي في بيسان اليوم هناك أول دار مكونة من طابق واحد مبنية من الحجر الأسود هي دار رئيس البلدية محمد سعيد الحلبوني وأمامها أشجار مزروعة بأوعية فخارية ومعدنية وشجرة نخل كبيرة، وواجهتها الشرقية بيضاء وهي إضافة حديثة وللجنوب منها على بعد أمتار كانت دكاكين الحسبة. ويضيف أبو أحمد بانفعال كبير «مقابلها على بعد أمتار عمارة دائرة الصحة وهنا اشتغلت عدة سنوات».

الدكتور رشاد آل درويش

إلى الشرق الجنوبي من دار أبو علي المذكور وعلى بعد نحو مئة متر هذه دار آخر رئيس بلدية في بيسان هو دكتور رشاد آل درويش، طابق واحد وواسعة جدا ومبنية من الحجر الأبيض وشبابيكه الخشبية ما تغيرت. وقد عمل رشاد درويش طبيبا وهجر لنابلس وتوفي هناك وما زال الشيخ سرحان يذكر «الدكتور رشاد دقني ابرة وانا صغير». بالمناسبة رؤساء البلدية في بيسان قبيل النكبة هم الشيخ مبارك الزعبي (الأصل من سيرين) وبعده محمد سعيد الحلبوني وبعده أحمد أبو علي وبعده رشاد درويش.

دار الشيخ محمد الزناتي

إلى الشمال الشرقي من رشاد درويش هناك مطحنة تشتغل بالماء ومنا تمر قناة جوفية وتستمر حتى الجامع الفاروقي وعلى ظهرها استحكام عربي يطل على معوز حاييم، وبجواره دار للشيخ محمد الزناتي اللي قتل في حيفا على يد منظمة «الكف الأسود» لصداقته مع اليهود وهو أصله من الأردن فدفن هناك.

وعن خبرته الواسعة بالبيوت وأصحابها قال «كان أبوي يشتغل بستنجي البلدية وكنت أنا في دائرة الصحة وكان عدد سكان بيسان المسجلين بضعة آلاف نسمة وهذا لا يشمل القبائل البدوية من حول المدينة». ومضى راسما ملامح معالم باتت صماء بعد الهجران «إلى الغرب من المدرج الروماني، كانت دار المعلم عزيز خوري من الرينة وكان محبوبا ومحترما جدا. بل أبو بيسان اللي حدّت عليه يوم مات دهسا على يد ضابط بريطاني في الناصرة. وكان جاره فريد فخري الدين ودار أخوه أبو هشام وأخوه الثاني عبد الجبار ومقابلهم كانوا ساكنين ناس نابلسية». ويسترسل في رسم خريطة سكانية لبيسان: «جنوب غرب السرايا خمسين مترا هناك آثار عمارة كبيرة هي مدرسة البنات اللي كانوا يتعلموا حتى الصف السابع، وجنوب المدرسة وغربها كان السوق ومحلقة ومكاتب وإلى الشمال منها مركز البلد ..الكراجات والمقاهي ودكاكين. أما الدار المبنية من الحجر الأبيض والملاصقة لبناية المدرسة من جهة الشرق فهي دار جورج قندلفت مدير البريد ومن شرقها يمتد صف دكاكين ..الدكان الثالث أو الرابع كان دكان كندرجي يدعى محمد مخلوف أبو معروف وبجواره دكان الحج سليمان الشامي».

نهاية المرحلة والرحيل

وعن نهايات مرحلة بيسان يروي أبو أحمد بعد القول إنه كان من أتباع المفتي الحج أمين الحسيني الذي مثله في بيسان فريد فخر الدين المعروف برجل المفتي في المدينة، وكان فخري يمشي في بيسان وبيديه قنبلتان كونه مهددا من الصهيونية. وعن الرحيل يقول: «كنت أنا وحياة والدي مع آخر مجموعة تركت بيسان…وكانت معنا سيدة اسمها أم رضا السالم وأرسين الأرمني وهو كندرجي». وتابع بلغته العامية «أجا علينا زابط يهودي من مستعمرة معوز حاييم وقال: ليش بعدكو هون…فقلنا: أجينا نوخذ الغراض، وقطعنا الباص وهو يحكي معنا أجت طيارة عراقية تقصف فتخبينا… بعدين بعثلنا سيارة وحملنا غراضنا اللي إلنا واللي ما إلنا ومن هناك نقلونا على الناصرة».

جال أبو أحمد شوارع مدينته المخطوفة السبية وتوقف قبالة منازل أصدقائه ومعارفه وأهالي بلده وعند كل معلم باق ليروي قصة الضيعة التي حباها الله بكل خير. غادرنا بيسان والشمس قد بدأت تغيب خلف الأفق وأبو أحمد يبدو مستعدا لفعل كل شيء عدا مغادرة مدينته الحبيبة بيسان، فيقول إنها عزيزة على قلبه مثلما هي الفتاة التي أحبها في صباه وما زالت ملامحها في مخيلته. ترجلنا نحو المركبة للرحيل من عروس الأغوار ووهج الحنين والحب مهيمنا على تقاسيم وجه أبو أحمد، تلفت للخلف كمن يلقي نظرة وداع مرددا بما قاله الشريف الرضي:

«وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب».

Follow Us: 

 

Leave A Reply