لبنان وأوكرانيا: لعنة الجغرافيا ولعبة الأمم

 

حسن الدر-

«إن الرّوس والأوكرانيين شعب واحد اشترك في حيّز تاريخيّ وروحانيّ واحد، وإنّ ظهور جدار بينهما في السّنوات الأخيرة، أمر مأساوي»

هذه العبارة التي كتبها الرّئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في مقال نشره في حزيران 2021 تذكّرنا بما قاله الرئيس السّوري الراحل «حافظ الأسد» عن التّرابط بين لبنان وسويا: «شعب واحد في بلدين» مع فارق أنّ الأسد كان معترفًا بالكيان اللّبنانيّ رغم قناعته بضرورة تلازم «المسار والمصير» بين البلدين.

ومع بدء الاجتياح الرّوسي لأوكرانيا عقب اعتراف الرئيس الروسي باستقلال منطقتي «دونيتسك» و«لوهانسك» الانفصاليتين، يقف الغرب وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأمريكيّة أمام تحدّ غير مسبوق منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1991، وتفتح الباب على احتمالات كانت بعيدة منذ ثلاثين عامًا سبقت.

خبراء غربيّون اعتبروا ما يجري الآن في أوكرانيا، ومناطق النزاع الأخرى، ومن انفلات أمني على مستوى العالم، تفاعلًا يسبق انبثاق نظام دولي جديد. وكلّ طرف يسعى إلى اكتساب أوراق استراتيجية أقوى، قبل حلول مواسم التّسويات؛ وفي ذلك اعتراف بأن ما ساد من فراغ في العقود الثلاثة السابقة، بعد انفراط عقد النظام الدولي الأحادي الذي ساد إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يعد قابلاً للاستمرار، وأن نظاماً دولياً جديداً، متعدد الأقطاب في طريقه للانبثاق.

هي لعنة الجغرافيا الّتي جعلت «أوكرانيا» ضحيّة لعبة الأمم بسبب موقعها الجيوسياسيّ الّذي فرض انقسامًا محلّيًّا بين شرق متاخم لروسيا ومرتبط بها لغويًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا، وبين غرب متطلّع نحو الاتّحاد الأوروبيّ ونظامه اللّيبرالي القائم على طرف نقيض مع الايديولوجيّة الحاكمة في موسكو.

هذا الانقسام المحلّي فتح شهيّة الولايات المتّحدة لمدّ أذرع حلف النّاتو في محاولة لاحتضان أوكرانيا وضمّها إليه لتكون مصدر تهديد مباشر لروسيا، على حدودها الّتي تشترك معها بأكثر من 400 كلم.

وإذا كان «فلاديمير لينين» قد اعتبر بأن «أوكرانيا هي الرأس وإذا فقدنا الرأس تعطل الجسد» فإنّ «فلاديمير بوتين» يرى «أن شرق أوكرانيا هي أرض روسية قديمة، وتاريخياً «ستالين» ضم إلى أوكرانيا مناطق من بولندا ورومانيا كما ضم إليها القرم». وكما يقول محللون غربيّون فإنّ أوكرانيا هي التي تصنع صورة روسيا كقوة عظمى أو هي التي تكسر هذه الصورة، ويضيفون أن  روسيا من دون أوكرانيا هي مجرد بلد بينما روسيا مع أوكرانيا هي إمبراطورية.

وعليه فإنّ أوكرانيا تدفع ثمن استدارة حلف «النّاتو» نحو شرق أوروبا، واستدارة روسيا نحو الفضاء السوفييتي، وللطّرفين طموحات توسّعية وقدرات قادرة على إشعال حرب مدمرة قد لا تقف عند الحدود الأوكرانية،  فبالنسبة للأوروبيين سقوط أوكرانيا بيد الكرملين سيفتح شهية موسكو نحو استعادة أجزاء من مساحاتها السوفييتية، ومن الجهة الأخرى فإن تموضع كييف الغربي سيشجع دولا كثيرة على التمرد الجيوسياسي ضد روسيا.

والحال في لبنان يشبه إلى حدّ بعيد حال اوكرانيا، فعند نشوء الدولة اللبنانيّة على شكل كيان «لبنان الكبير»، حصل خطأ مميتٌ في بناء الحياة اللبنانيّة السياسيّة والاقتصاديّة كما مورستْ لاحقًا، وتمثّل هذا الخطأ بأنّ أكثر من نصف اللبنانيّين لم يكن يريد هذه الدولة، والنصف الثاني الذي يريدها كان يريد معها حمايةً أجنبيّة خوفاً من أن يلتهمها الطرف الأوّل من طريق إلحاقها بوحدةٍ مع سوريا. والسبب الرئيس في ذلك عدم التوافق بين اللبنانيّين على رواية تاريخ معيّن تجد الأطرافُ اللبنانيّة نفسَها فيه متساوية أو متوازية مع الأطراف الأخرى.

وفي سبعينات القرن الماضي شعر الوزير الأميركي السابق هنري كيسنجر بصعوبة ابتكار حل سحريّ ينهي الصراع العربي الاسرائيلي حتى انتبه أخيراً إلى أنّ الحلّ موجود في لبنان، لأنه «خطأ تاريخي»، فدعى إلى توطين الفلسطينيين فيه على قاعدة توزيع مناطقه على دول الجوار. فترضى سوريا وتحقق «إسرائيل» مطامعها، وينسى العرب فلسطين!

لكن ابتكار «كسينجر» أسقطته المقاومة، ولم تنفع تلك الاختراعات الخارجة عن سياقات المنطق التّاريخي وبقي لبنان، بسبب عمق الانقسامات الدّاخليّة حول الخيارات الاستراتيجية، «مكانًا صالحًا لتغيير قطع السّياسات الدّوليّة» كما نُقل عن «كسنجر» نفسه، وبقي الانقسام اللّبناني على حاله رغم اتّخاذه أشكالاًا مختلفه حسب تبدّل الظّروف الدّوليّة والاقليميّة المحيطة، وشكل الانقسام اليوم ينحو منحى التّموضع المتضادّ بين محور المقاومة والمحور الأميريكيّ.

وإذا كان العالم يشهد مخاض ولادة نظام جديد فلبنان ميدان مثاليّ لترسيم حدود نفوذ الأقطاب المتصارعة في منطقة الشّرق الأوسط، يؤهّله لذلك موقعه الجيوسياسي على شرق المتوسط الغني بالنّفط والغاز والممرّ المحتمل باتّجاه أوروبا، إضافة إلى حدوده الجنوبيّة مع فلسطين المحتلّة مع ترسانة ضخمة من الصواريخ الّتي تؤرّق الكيان الاسرائيلي وتهدّد مصيره وبالتّالي مصير المشروع الأميركي في المنطقة، وحدوده الشّماليّة مع سوريا شريانه الحيويّ المتّصل بإيران عبر العراق.

تمامًا كما أنّ أوكرانيا اليوم مؤهّلة لتكون مكانًا صالحًا لترسيم حدود النّفوذ شرق أوروبا بين روسيا وحلف النّاتو، مع فارق زمنيّ آخر بين أزمتي لبنان وأوكرانيا، وهو أنّ لبنان ومنطقة الشّرق الأوسط دخلت مواسم التّسويات، وأولى ثمارها اتّفاق «فيينا» المتوقّع توقيعه خلال أيّام، حسب المعطيات المتوافرة من هناك، وهذه التّسوية تأتي بعد سلسلة أحداث دراماتيكيّة أغرقت المنطقة العربيّة بالحروب الدّامية والاغتيالات الكبرى، منذ عام 2005 مرورًا بحرب تمّوز 2006 وانتهاءً، إلى الآن، بالحروب التّكفيريّة وما رافقها من جرائم مهولة.

أمّا أوكرانيا فتشهد الفصل الأخير من سلسلة أحداث بدأت ناعمة وملوّنة في «كييف» بعدما رفض الرئيس الأوكراني وقتها «فيكتور يانوكوفيتش» اتفاقية تؤمّن المزيد من التقارب الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي لصالح التقارب مع روسيا، وقد تنتهي الحرب بتسوية تبقيها حدًّا فاصلاً محايدًا بين القوّتين المتصارعتين كما فعلت سويسرا بتحييد نفسها عن صراعات جارتيها فرنسا وألمانيا سابقًا، أو بتقسيم أوكرانيا وضمّ شرقها إلى روسيا فيما ينضمّ غربها غلى كلّ من بولندا وهنغاريا.

إذا كانت الجغرافيا هي القدر، فإنّ الأقدار تصنعها الرّجال، وإذا نجح الرّئيس الرّوسي بفرض خياراته على الغرب فإنّ تاريخًا جديدًا سيبدأ ونظامًا عالميًأ جديدًا سينبثق عنوانه «فلاديمير بوتين»!

Leave A Reply