رياض سلامة بين نارَين: السِّجن أو غضب الناس

كتب خضر حسان في المدن : أسقَطَ لبنان إحدى الأوراق التي تخوّله كسب بعض الثقة الدولية المُنتَظَرة لنجدته من مأزقه، وهي ورقة التدقيق الجنائي. وتطيير التدقيق يحرم لبنان من استعادة الثقة الدولية التي تتناقص مع استفحال الأزمة واشتداد الصراعات السياسية الداخلية والخارجية. غير أنَّ الطلاق بين لبنان وشركة “ألفاريز أند مرسال” Alvarez & Marsal المُكَلَّفة إجراء التدقيق الجنائي، لم يكن مصادفة. والتذرّع بالسريّة المصرفية لنسف التدقيق، ليس بريئاً. فكل شيء جرى وِفقَ خطّة موضوعة سلفاً لعدم إجراء التدقيق، وبالتوازي للتخلّص من رياض سلامة، إمّا بشكل مباشر عبر إزاحته من منصبه، وإمّا بتوريطه أكثر وزيادة الضغط عليه لتقديم المزيد من الخدمات للمنظومة الحاكمة من موقع المهزوم هذه المرّة.

حاجز القانون

وَصَلَ سلامة الى حائط مسدود بعد إصرار المنظومة على إجراء التدقيق من دون فتح قنوات قانونية تخوِّل مصرف لبنان التعاون مع شركة التدقيق وفق الحدود القصوى. فقانون النقد والتسليف يكفل السريّة المصرفية، وهي الصخرة التي احتمى خلفها سلامة لرفض فتح كل ملفّات المصرف المركزي أمام شركة ألفاريز. 

لم تتحرَّك المنظومة لتعديل القانون لإلزام سلامة بالمزيد من التعاون، بل أصرَّت عليه لفتح كل الملفّات بلا تغطية قانونية. وهذا ما رفضه الحاكم، معتبراً أن هذا الإصرار يهدف الى إحراقه مِن خلال رمي الكرة في ملعبه، فإن رَضَخَ وخالَفَ القانون، يصبح عرضة للمُساءَلة ودخول السِجن. والدولة وسائر المصارف الخاصة، قد ترفع الدعاوى القضائية ضد سلامة لانتهاكه القانون وإفشاء ما تحويه الحسابات من أموال، وهذا ما ترفضه المصارف. امّا إذا أصرَّ سلامة على رفضه، فسيواجه الضغط الشعبيّ الذي يُحمِّله في الأصل مسؤولية كبرى حيال الأزمة التي نمرُّ بها. وبذلك، تكون المنظومة قد حاصَرَت سلامة مستعمِلةً القانون.

القانون نفسه، سيكلّف لبنان 150 مليون دولاراً، وهي كلفة تجاوز العقد مع الشركة التي لم تستطع إكمال مهامها. وكلفة التجاوز تدفعها الدولة ولا تتحمَّلها الشركة. وللمفارقة، الحكومة لا مانع لديها من دفع هذا المبلغ، في حين كان بإمكانها دفع 2.5 مليون دولار فقط، فيما لو جرى التدقيق من دون الوصول الى الخواتيم المطلوبة.

هروب المنظومة وتواطؤ ألفاريز

طي صفحة التدقيق مع شركة ألفاريز يحمل بصمات المنظومة الحاكمة. وسلامة يعرف ذلك تماماً. ويعلم أيضاً أنَّ التعاقد مع الشركة جاء على قياس المنظومة التي استعانت بشركة لا تملك خبرة في التدقيق الجنائي. إذ أنَّ ألفاريز هي شركة خدمات استشارية مالية ورائدة في مجال تطوير الأداء وإدارة التحوّل لدى الشركات.

وفي الشكل، لم تكن ألفاريز تملك مكتباً أو وكيلاً لها في لبنان، ولم تحصل على مكتب لممارسة عملها، بل حاولت الاستعانة بمكاتب مصرف لبنان الذي رفض التعاون في هذا الإطار، ولم تبادر المنظومة إلى حلّ المشكلة، لأنها في الأصل تسعى لعرقلة التدقيق حتى لا يُفتَضَح أمر الحسابات والأرقام الحقيقية للفساد والهدر.

ليس هناك الكثير لقوله، بحسب ما تشير إليه مصادر في مصرف لبنان. “فما حصل لا يمكن التراجع عنه. والحكومة أصبحت عاجزة أكثر من أي وقت مضى، فهي غَرِقَت في وحل منظومة متمرّسة بفنون التورية والتواطؤ وتعديل المسارات المؤدّية الى كشف الفساد”. وتضيف المصادر في حديث لـ”المدن”، أنَّ حكومة حسّان دياب لم تكن أكثر من “مجموعة مبتدئين، لم تستطع الحفاظ على العملة الصعبة الموجودة في مصرف لبنان والمصارف. استسهلت عدم دفع مستحقات سندات اليوروبوند، بحجة صرف الأموال على الناس، فيما كان من الأجدى إعلان الإفلاس والركض لإجراء تسوية مع أصحاب الديون، وبالتالي توفير الأموال التي اصطُلِحَ على تسميتها بأنّها “دعم السلع الأساسية”، فيما هي باب جديد لتبديد أموال الناس عبر صرف الودائع. وكل ما حَصَل ليس سوى حالة هروب الى الأمام، حيث لا ينفع تدقيق جنائي ولا أي شيء آخر”.

تأزّم الوضع

الشروع بإجراء التدقيق الجنائي كان مقدّمة لتحسين صورة لبنان أمام صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي الذي وَعَدَ لبنان بالمساعدة في مؤتمر سيدر. وفضّ التعاون بين لبنان والشركة، بدَّدَ حالة الثقة لدى الصندوق وعَزَّزَ حالة اللاثقة التي إلتَمَسها المجتمع الدولي.

وهذه الحال ستزيد عزلة لبنان الاقتصادية، ما يُجبِر المصرف المركزي على التدخّل لوقف الاستنزاف. والتدخل ليس إلاّ طرح الدولار في السوق والاستمرار بسياسة الدعم، وهما حالتان لا يستطيع المركزي فعلهما بالشكل المطلوب، إذ تعنيان استعمال ودائع الناس الموجودة في مصرف لبنان عن طريق ودائع المصارف التجارية.

الدولار بدوره قد يشهد ارتفاعاً مع تراجع معدّلات الثقة، وإن تم تشكيل الحكومة في وقت قريب. فالمنظومة ستخوض معاركها السياسية داخل الحكومة، ومن ضمنها المعركة على كرسي حاكمية المصرف المركزي، والتي تتخلّلها حروب متعدّدة لتنظيف كفّ كل طرف، ورمي المخلّفات على رياض سلامة بوصفه الحلقة الأضعف حالياً. فأحزاب المنظومة، وبرغم خلافاتها، متّفقةٌ على ضرورة إزاحة سلامة، إمّا لاستبداله لأغراض سياسية أو لكونه كبش فداء دسم، سيُقنِع سقوطه جمهور السلطة الذي أُقنِعَ زوراً، بأنَّ سلامة وحده المسؤول عن الأزمة، من دون زعماء المنظومة.

Comments are closed.