“الثقب الأسود”: مخاوف برّي من 2005 إلى اليوم

رضوان عقيل

يروي رئيس مجلس النواب نبيه برّي للزميل نبيل هيثم في #كتاب “الثقب الأسود”، جملة من #مذكراته عن الوقائع والمحطّات التي عايشها عن كثب وشارك في اتخاذ أكثر من قرار مفصليّ فيها، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005 إلى يوم انتخاب الرئيس ميشال عون. وينطبق هذا العنوان على واقع عذابات اللبنانيين اليوم، حيال ما كان يحذّر منه بري قبيل الوقوع في الأزمات الكبرى. وما أكثرها في بلد لا يزال فيروس الطائفية ينخر مؤسساته منذ ولادة “لبنان الكبير” قبل مئة سنة. يروي في بداية صفحات الكتاب الـ 395، كيف تلقّى خبر استشهاد رفيق الحريري وما دار بينهما في المجلس، إذ ربطتهما أواصر صداقة حقيقية. وعندما كانا يختلفان على قضية ما لم يتسلل الحقد إلى قلبهما. وسرعان ما كانا يعودان للتلاقي والتشاور وتسيير أمور البلد بعد خصام قصير.

وفي ذاكرة رئيس المجلس فيض من الأسرارعن علاقته مع الحريري، التي تبقى ملكه ولا يبوح عن كلّ مكنوناتها لاعتبارات تخصّ الرجلين. ويلخص محبته للراحل بجملة معبّرة في الكتاب: “يوم الإثنين 14 شباط عيد العشاق حيث يكثر شراء الورد الأحمر، غير أنّ أحمر من لون آخر كان ينتظر لبنان”. وتلخص هذه الكلمات القليلة واستقباله “الخبر المفجع”، جملة من الحقائق والأحداث الصعبة والقاسية التي سيطرت على يوميات المواطنين. وأدرك بري منذ البداية أنّ هذه العملية الجبانة استهدفت لبنان في وحدته الوطنية واقتصاده ورسالته، وهذا ما يحصل على أرض الواقع.

ويتطرّق بري إلى أكثر من محطة في عهد الرئيس إميل لحود والانقلاب على “التحالف الرباعي”، ويتحدث بالتفصيل عما كان يدور بينه وبين السفيرين الشهيرين آنذاك الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار ايمييه، وكيف عملا على وضع “فيتو” على إعادة انتخابه رئيساً للبرلمان. ووصف بري الثاني بـ”الرئيس الفرنسي لما وراء البحار”.

وتُظهر صفحات الكتاب كم يعشق بري هذا النوع من المعارك والمواجهات والكباش السياسي، ولا سيما مع سياسيين وديبلوماسيين من قماشة الخبراء والمجربين في حجم فيلتمان، الذي كان يدير جبهة “14 آذار”. واختصر بري معركته مع السفيرين بالقول: “بالأمس كنا نحتاج إلى سيارة، واليوم صار بدنا طيارة”. غادر فيلتمان بيروت وبقي على تواصل مع بري، ولو عبر الرسائل الهاتفية التي لم تخل من الغمز من الطرفين. وفي طيات الكتاب تبرز بوضوح وفي أكثر من أزمة ومحطّة، علاقات الصداقة بين بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط التي تعود إلى أربعة عقود، ولو تخللتها بعض “المناوشات” في السنوات الأخيرة.

يغوص القارئ في الكتاب، حيث تخرج المواقف من بري عن تلك المحطّات بأسلوبه الخاصّ والمشوّق، رغم تناوله قضايا خلافية من حكومة الانقسام برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة وما رافقها، إلى غيرها من القضايا الشائكة مثل موضوع المحكمة الدولية الخاصّة بجريمة اغتيال رفيق الحريري، والتلويح بتطبيق الفصل السابع في ظلّ الانقسام العمودي بين فرقاء البلد حيال النظرة إليها، منذ أن تبنّتها الأمم المتحدة إلى اليوم. ويعرّج أيضاً على كشف حقائق من حوار آذار 2006، حيث كان هدفه الأول هو خلق فرصة للتلاقي ونقل البلد من محطة إلى أخرى ونزع فتيل الاشتعال. وكان همّه التنبّه إلى الدرس العراقي وعدم الوقوع في مستنقعه المذهبي.

ومن الصفحات المهمة في “الثقب الأسود” مواكبة بري للعدوان الإسرائيلي في تموز 2006، على وقع الانقسام الرهيب الذي شهده لبنان. ويقصّ بإسهاب مضمون وقائع استقبالاته لشخصيات عربية وأجنبية حضرت إلى بيروت لمعاينة الوضع في البلد. وعبّر آنذاك عن موقف معبّر: “أحذّر اللبنانيين من الاستمرار في خلافهم، وأقول لهم عليكم أن تحفظوا بلدكم وإلّا فستدخلون في نفق مظلم”. ولم يتوقف وفي وسط كلّ هذه النيران السياسية عن إطلاق المبادرات.

ويحتلّ مسلسل لقاءات بري والحريري الابن وما كان يدور بينهما مساحة من الكتاب، وكيف كانت نقاط لقاءاتهما محلّ متابعة كبار القادة في السعودية وإيران. ولم يخف بري في طيات حديثه عن الحريري محبته له، ويتبادلان هذا الأمر رغم كل الضغوط التي كانت تمارس على زعيم “تيار المستقبل” من جهات عديدة في الداخل قبل الخارج. ويبقى الشاهد الأول على هذه العلاقة سفير المملكة السابق عبد العزيز خوجة.

وفي ظل التنقل من تصعيد إلى تصعيد، يعرّج بري في معرض صدّه لسهام قوى “14 آذار” والردّ عليها، على استعانته بالأستاذ غسان تويني (لم تبنَ علاقتهما على أساس تعاون بين رئيس مجلس ونائب في البرلمان فحسب بل كانت حدودها أكبر من هذه المساحة) في نقل أكثر من رسالة إلى البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير وطمأنته بعد تخطي الدستور، “ولن يحصل انتخاب رئيس جديد للجمهورية إلا وفق الأصول، وبعد أن أحصي 86 نائباً فما فوق قد دخلوا قبلي إلى قاعة الهيئة العامّة في المجلس”. وزار بري بكركي وسمع من سيدها “نحن نبارك جهودك، ونتمنى لك التوفيق”. وردد رئيس المجلس الكلام نفسه على مسمع مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ولش، الساعي إلى انتخاب رئيس بنصاب النصف زائداً واحداً. وأجابه بري بأنه يريد “رئيساً لبنانياً لبنانياً لبنانياً”. وشكّل صمود بري ثابتة ومسلّمة دستورية، تمنع أيّ طامح بالوصول إلى رئاسة الجمهورية من دون توفر نصاب الثلثين، وعدم العودة إلى نغمة النصف زائداً واحداً.

في الكتاب وقائع محطات مشوّقة من الدروس السياسية يقصّها بري، حصلت بينه وبين الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، والأمين العامّ للأمم المتحدة بان كي مون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، ورئيس الدوما الكسندر تورشين، ووزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير… ولم تخل هذه اللقاءات من العبر والدروس التي يعكسها بري عن احترامه المنصب الذي يمثّله أولاً، فضلاً عن الصورة التي يقدّمها عن بلده بعيداً من الدخول في لغة الزواريب ونشر الغسيل السياسي في الداخل على مسرح الأمم. وينال إعجاب زائريه هنا حتى لو لم يؤيدوه في السياسة. ولطالما فتش عن الحلول حتى “لو استخدمت إبرة في حفر الجبل”، انطلاقاً من قناعة عنده هي أنّ لبنان “محكوم بالتوافق”. وكان ردّه على الذين يريدون المحكمة أنهم يريدون “التحكم والاستثمار عليه”. ويتناول الكتاب تحضيرات لقاء “سان كلو” الحواري في فرنسا، وما تبعه من تطورات مع “تملص قوى 14 آذار في الذهاب إلى حوار منتج”.

وبالعودة إلى فيلتمان ودخوله على خط انتخاب رئيس الجمهورية، كان بري لا ينفكّ عن القول بأنه يريد رئيساً متوافقاً عليه في الدرجة الأولى. وأن يكون على علاقة جيدة مع سوريا، وعلى علاقة طيّبة مع كل الدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة، وأنّ مرشّحه هو “التوافق”.

ويتناول الكتاب كل ما سبق من زيارات واتصالات بين الأفرقاء حيال موضوع انتخاب رئيس الجمهورية، بدأت قبل انتهاء ولاية الرئيس لحود. وتعقدت الأمور أكثر عند انتهاء ولايته في 24 تشرين الثاني 2007. وبدأ بعدها اسم العماد ميشال سليمان بالتداول.

إلى الدوحة… شكراً قطر

ويروي رحلة انتقال الأفرقاء إلى قطر، وانطلاق حواراتهم في 16 أيار 2008، وإعلان “اتفاق الدوحة”. ويتم الكشف عن جملة من المشاورات التي تمت، وأهمّها إحباط محاولات حثيثة من فريق “14 آذار” لجعل سلاح المقاومة بنداً أساسياً على طاولة الحوار، وتتويج هذا اللقاء بانتخاب سليمان رئيساً للجمهورية في 25 أيار 2008.

ولم يخف بري قلقه من مغادرة سليمان القصر من دون أن يسلّم الأمانة الرئاسية إلى رئيس جديد، طال انتظاره سنتين ونصف السنة. وخاض رئيس المجلس مع البرلمان طوال كل هذه الفترة “معركة وجودية”. وتطول هنا سبحة الأحداث إلى إقدام الإدارة الأميركية على فرض واشنطن عقوبات على “حزب الله”. ويعرّج بري هنا على “السلّة المتكاملة”، التي لو تم الاتفاق عليها لوفّرت على البلد رزمة من الأزمات. أما عن انتخاب العماد عون رئيساً للبلاد، فخاطبه رئيس المجلس منذ البداية “دولة الرئيس أنا لن أنتخبك”.

صفحات “الثقب الأسود” الصادر عن “دار بلال”، تحمل في سطورها طابع التشويق. مع أنّ الزميل نبيل هيثم الساكن في وجدان برّي، تناول مواضيعها في مقالاته في الزميلة “السفير” آنذاك. لكن بري يكشف في الكتاب عن مجموعة من المحاضر السرّية التي تستدعي التوقف عند موادّها، والتدقيق في حيثيات تطوّرات ما رافق الأعوام الأخيرة. يشكّل الكتاب وثائق لأحداث يمكن الاستفادة من وقائعها والتعلم منها، وعدم تكرار كلّ ما جلب للبنان من انهيارات بفعل عناد البعض وتعنّته، ولو على حساب مصلحة الوطن.

ولو تكرّرت الأحداث نفسها اليوم لاتخذ رئيس المجلس القرارات والخيارات نفسها، من عدم تجاوز الدستور إلى مواصلة كفاحه في الوصول إلى قانون انتخاب عادل، والتوجه نحو حلم رحاب الدولة المدنية، تلك الجنة التي لم يختبر اللبنانيون العيش في ربوعها بعد.

Leave A Reply