مبادرة بري: من يتلقفها ؟

نبيل هيثم

يوماً بعد آخر يسقط لبنان في التجاذبات السياسية في وقت لم يعد الشارع قادراً على كتم بخار الغضب المتراكم في صدره.

أما وأن الحال وصلت إلى هذا الدرك من الاستخفاف بمعاناة اللبنانيين وآلامهم، لم يعد مقبولاً إلا ان تسمّى الأسماء بمسمّياتها، طالما أن المسلّات الحكومية باتت “تنعر” المعطلين من تحت أبطهم: بلى، ميشال عون – ومن خلفه جبران باسيل – هو المعطّل! هذا ما ينطق به لسان الكثيرين.

لم يعد ممكناً لأحد أن يقنع أبسط مواطن لبناني – إلا أولئك البرتقاليين المتعايشين مع حالة الإنكار المرَضية – أن رئاسة الجمهورية بريئة من دمه المسفوك على مذبح المحاصصة العونية والطموحات الرئاسية الباسيلية التي تكاد تكرر، حرفياً، مأساة من عايش الطموحات الرئاسية “الجنرالية” في أواخر الثمانينيات، والتي جرّت على البلاد جولتين من أشنع جولات الحرب الأهلية.

باتت الطموحات البرتقالية عبئاً على الجميع. هي عبء يرزح تحته 80 في المئة من الشعب اللبناني الذي بات عند مستوى خط الفقر وما دونه، سواء عند الشريحة التي فجرت غضبها في الشارع الأسبوع الماضي، والتي قرر البعض “شيطنتها” بعدما رُميت مكرهة لا مختارة في أتون الأجندات السياسية والعوز المعيشي والصحي. هي أيضاً عبء على كل القوى السياسية، من الخصم الى الشريك، على النحو الذي يخاطر فيه ميشال عون بعزلة شبيهة بعزلة عامي الثمانينيات الأخيرين. 

بالأمس قالها الرئيس نبيه بري. العائق أمام تشكيل الحكومة ليس من الخارج بل من عندياتنا، وهو ما يجعل كل كلام سابق عن تأثيرات ايجابية محتملة للانتخابات الاميركية على المبادرة الفرنسية، وبالتالي على الأزمة اللبنانية مجرّد هروب إلى الأمام من المسؤولية الأخلاقية والسياسية في ظل ما آلت إليه الأوضاع المزرية في بلد بات يعيش على “التسوّل”.

باختصار، فإنّ كلام رئيس مجلس النواب بالأمس قد جاء في سياق وضع النقاط على الحروف لجهة توصيف الأزمة الحكومية:

أولاً، أزمة التشكيل الحكومي هي مسألة داخلية ولا علاقة لها بما يحاول البعض الترويج له بشأن الضغوط الخارجية، التي تسير اليوم باتجاه تسهيل التأليف لا تعطيله، على النحو الذي تبين منذ أن أعاد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تحريك مبادرته غداة اتصاله مع جو بايدن.

ثانياً، السبب الرئيسي في تعطيل التأليف الحكومي يمثل في المحاصصة التي باتت كل عقدها في قصر بعبدا إن لجهة التمسك بالحصة الرئاسية أو بالثلث المعطل.

الأهم مما سبق أن المحاصصة – بمسمياتها المختلفة – تكشف تماماً من يعرقل المبادرة الفرنسية، فمجرّد المطالبة بحصة رئاسية أو بثلث معطل يعني من الناحية الفعلية التخلي عن فكرة حكومة الاختصاصيين أو اللاحزبيين، التي التزمت بها كل القوى السياسية في لقائها مع ماكرون في قصر الصنوبر.

المثير للدهشة أن الرئاسة الأولى وفريقها السياسي قد جعلت الثلث المعطل معركتها في وقت تبدو المطالبة بالمحاصصة ضرباً من ضروب العبث في وقت تنهار فيه البلاد، ولم يعد فيها ما يمكن تقاسم الحصص عليه.

لا يغير في هذه الحقيقة بيانات النفي المتلاحقة التي باتت دوائر القصر الجمهوري ملمّة بصياغاتها الفاشلة، والتي باتت موزعة على عنوانين تبدو معهما قصص الاطفال الخرافية أكثر اقناعاً منهماً، على شاكلة أن جبران باسيل لا يتدخل في مفاوضات التشكيل الحكومي وأن رئيس الجمهورية لم يطالب بالثلث المعطل!

أبسط قواعد المنطق تشي بأنّه لو صحت بيانات النفي الرئاسية لأبصرت الحكومة النور منذ تكليف الرئيس سعد الحريري بالتشكيل، لا سيما أن تلك المرحلة كانت تشهد زخماً في الحراك الدولي، ولا سيما المبادرة الفرنسية، ولا سيما بعدما حُلت العقد التي حالت دون إتمام مهمة مصطفى أديب.

امتداداً لما سبق، فإنّ ما صدر عن الرئيس نبيه بري لا يقتصر على التوصيف، بل يشكل خريطة طريق، قد تمثل الفرصة الأخيرة التي ينبغي على الجميع – او بالاصح على المعطلين الرئيسيين – التقاطها قبل الانفجار الكبير الذي لاح نذره في طرابلس خلال الأيام الماضية، والذي به لن ينفع أي ندم على ما أهدر من مبادرات.

بهذا المعنى يتلاقى كلام الرئيس بري مع الحراك الفرنسي المتجدد لتحريك مسار التأليف، والتي يمكن تحديد خطوطها العريضة بثلاث نقاط:

أولاً، إعادة التأكيد على ثوابت الإختصاصيين غير التابعين وغير الحزبيين.

ثانياً: تولي الأطراف السياسيّة والطائفيّة تسمية وزرائها وموافقة الأطراف المعنية على أن الاختيار سيتم على قاعدة “أسماء ليست معنا وليست ضدنا”.

ثالثاً، التخلي عن فكرة الثلث المعطل، التي لم تعد مجرّد بدعة دستورية في زمن الترف السياسي قبل 17 تشرين الأول 2019، بل باتت تأشيرة دخول إلى جهنم بتذكرة سفر ذهاب بلا إياب.

السؤال الجوهري الذي يتبادر إلى الذهن بعد مبادر بري يتمثل في تحديد مدى استعداد المعطلين على التقاط الفرصة، لا سيما بعد حديث ايمانويل ماكرون عن زيارته الثالثة للبنان، والتي قال انه ينتظر لتحديد موعدها نضوج بعض الظروف، التي يمكن توقع أن الرئيس الفرنسي يقصد بها اختراق ولو محدود في جدار الأزمة الحكومية.

حتى الآن، لا يبدو أن ثمة ما يبشر بالخير. صحيح أن الرئيس المكلف قد صدر عنه تلميحات علنية غير مباشرة – بجانب تسريبات تفيد بقبوله المبادرة الجديدة.

وصحيح كذلك أن رئاسة الجمهورية قد نفت مطالبتها بالثلث المعطل، بعدما اصابتها سهام كلام رئيس المجلس النيابي ولو لم يسمّها.

إلا أن تجربة الحكم تجعل فرص الفشل أكبر بكثير من فرص النجاح، أقلّه من ناحية التيار البرتقالي، الذي يبدو أن غرفة عملياته قد بدأت بالتحرك المضاد، لا سيما بعدما تبيّن ان جوهر المبادرة لم يرق لرئيسه الطامح إلى الوراثة الرئاسية، وهو ما بدأ يتكشف بالأمس من خلال محاولة الإيحاء بأن كلام الرئيس بري، وبرغم ما تضمنه بيان رئاسة الجمهورية بالأمس، موجه في الأساس لسعد الحريري وبأنّ هدفه “حشر” الأخير في الزاوية!

Leave A Reply