عماد ياغي- البناء
في الشرق الأوسط، لا تُخاض المعارك دائماً بالدبابات والطائرات، بل تُدار أحياناً على إيقاع الصبر، وعلى إحداثيات الزمن الطويل، وعلى هندسة هادئة تعيد تشكيل موازين القوى دون ضجيج. في قلب هذه الهندسة، تقف إيران بثبات يشبه صبر الجبال، وفي مواجهتها يقف محور الشر الذي تقوده “إسرائيل” بدعم مباشر من الولايات المتحدة. وبين هذين المعسكرين، تتقاطع خطوط النار في لبنان واليمن وفلسطين، وتتقاطع معها أيضاً خطوط المصالح العالمية، حيث تفتح الصين أبوابها لاتفاقات عسكرية تعيد تفسير معنى القوة في القرن الحادي والعشرين.
ليست هذه مواجهة عسكرية تقليدية، ولا حرباً تُحسم في موسم واحد، بل صراع طويل النفس، تُدار فيه كلّ خطوة بميزان حساس بين الردع والتفادي، بين التصعيد المحسوب والانكفاء الذكي، بين إظهار القوة وإخفائها حتى لحظة الحاجة. هنا، لا يكون السؤال من يملك السلاح الأحدث فقط، بل من يملك القدرة على الانتظار، وعلى تحويل الزمن إلى حليف، وعلى جعل الخصم يستهلك ذاته في معارك الاستعجال والارتباك.
منذ سنوات، اختارت إيران أن تبني استراتيجيتها الإقليمية على قاعدة مزدوجة: حلفاء أقوياء، ودبلوماسية باردة تراكم المكاسب بهدوء. في لبنان، يشكّل حضور المقاومة عنصر توازن لا يمكن القفز فوقه، ليس كقوة عسكرية فحسب، بل كحقيقة سياسية واجتماعية متجذّرة في الأرض. وفي اليمن، تحوّل الصمود من عبء إنساني إلى عنصر ضغط جيوستراتيجي، أعاد ترتيب حسابات البحار والممرات الدولية. وفي فلسطين، بقيت جذوة الاشتباك مفتوحة، تمنع تحويل الصراع إلى ملف منسي في أدراج التفاهمات.
في الجهة المقابلة، يراكم المحور الآخر تفوّقاً تقنياً ونارياً، ويعتمد على سرعة الحسم وعلى الضربة المركّزة، لكنه يصطدم في كلّ مرة بجدار الواقع: لا شيء يُحسم سريعاً في هذه المنطقة، ولا شيء يبقى تحت السيطرة الكاملة. فكلّ ضربة تفتح مساراً جديداً للاشتباك، وكل ضغط يولّد ردود فعل تتجاوز مسرح العمليات المحدود إلى فضاءات أوسع، سياسية واقتصادية وأمنية.
قوة إيران في هذا المشهد لا تكمن فقط في ترسانتها الصاروخية أو في شبكة تحالفاتها، بل في فلسفتها للصراع. هي لا تتعجّل النصر، ولا تُراهن على معركة فاصلة واحدة، بل تُراكم نقاطاً صغيرة، تبدو في ظاهرها تكتيكية، لكنها في مجموعها ترسم خطاً استراتيجياً صاعداً. إنها سياسة “النقاط الهادئة”، حيث لا يُقاس التقدّم بارتفاع الدخان، بل بتغيّر التموضع، وبانتقال الخصم من الهجوم إلى الدفاع، ومن المبادرة إلى ردّ الفعل.
في السنوات الأخيرة، بدا واضحاً أنّ الصراع لم يعد محصوراً في الميدان العسكري المباشر، بل تمدّد إلى فضاء أوسع: الاقتصاد، التكنولوجيا، الطاقة، والممرات البحرية. هنا تحديداً، دخل العامل الصيني بقوة. ليس عبر تحالفات صاخبة أو قواعد عسكرية صريحة، بل عبر شراكات استراتيجية، واتفاقات تطوير، ونقل معرفة، وبناء قدرات. الاتفاقات العسكرية بين طهران وبكين ليست مجرد صفقات سلاح، بل إعادة تموضع لإيران داخل معادلة عالمية جديدة، تنتقل فيها موازين القوة تدريجياً من القطبية الأحادية إلى فضاء متعدد الأقطاب.
هذه الشراكات لا تُوظَّف في خطاب استعراضي، بل تُدار بلغة هادئة، لكنها تحمل في طيّاتها رسائل ردع عميقة: زمن الحصار المطلق انتهى، وزمن العزلة التكنولوجية يتآكل، وزمن الاعتماد على الغرب كمصدر وحيد للتسليح يقترب من نهايته. ومع كل خطوة في تطوير الأسطول العسكري، لا تُراكم إيران وسائل القوة فحسب، بل تُعيد تعريف معنى الأمن الوطني خارج القوالب التقليدية.
على الضفة الأخرى، يبدو محور الشر الأميركي ـ الإسرائيلي أكثر استعجالاً، وأكثر اعتماداً على منطق “الحسم السريع”، لكنه في الوقت نفسه أكثر قلقاً من الاستنزاف الطويل. فالمنطقة التي كانت تُدار سابقاً عبر قواعد واضحة وتوازنات ثابتة، باتت اليوم ساحة متحركة، لا يمكن ضبط إيقاعها بسهولة. كلّ جبهة مفتوحة تحمل في داخلها احتمالات تمدّد، وكل اشتباك محدود يحمل في ظلّه ظلّ مواجهة أوسع.
في هذا السياق، يتحوّل الصبر من قيمة أخلاقية إلى أداة سياسية من الدرجة الأولى. الصبر هنا ليس انتظاراً سلبياً، بل إدارة دقيقة للوقت، وتوظيف ذكي للمتغيّرات، واستثمار واعٍ في التحوّلات الدولية. فبينما ينشغل الخصم بإدارة أزمات متلاحقة، تواصل طهران تثبيت معادلاتها بهدوء، مستفيدة من كلّ شرخ يظهر في بنية النظام الدولي، ومن كلّ تراجع في قدرة القوة الأميركية على فرض إيقاع واحد على العالم.
لبنان، في هذا المشهد، ليس ساحة ثانوية، بل عقدة مركزية في الهندسة الإقليمية، والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى موقع لبنان الجغرافي ووجود مقاومة باسلة لم ينجب التاريخ مثيلاً لها، تواجه عدو يستبيح ويقتل وينتهك.
أما اليمن، فقد انتقل من هامش الجغرافيا السياسية إلى قلبها. فالممرات البحرية التي تمرّ عبره لم تعد مجرد خطوط على الخرائط، بل صارت أوراق ضغط حقيقية في معادلة الاقتصاد العالمي. هنا يتجلّى أحد أوجه الصراع غير المرئية: حين يصبح بلداً محاصراً قادراً على التأثير في حركة التجارة الدولية، فهذا يعني أنّ مفهوم القوة تغيّر، وأنّ أدوات الردع لم تعد محصورة في الجيوش النظامية وحدها.
في هذا كله، لا تقدّم إيران نفسها بوصفها دولة تبحث عن حرب شاملة، بل بوصفها دولة تسعى إلى تكريس معادلة ردع تمنع فرض الإملاءات عليها وعلى حلفائها. خطابها السياسي يقوم على فكرة أساسية: لا حرب بلا كلفة، ولا ضربة بلا ردّ، ولا حصار بلا التفاف. هذه الفلسفة، حين تُطبّق على مدى سنوات، تتحوّل إلى نمط ثابت يُعيد تشكيل سلوك العدو، حتى وإن لم يعترف بذلك علناً.
اللافت في هذه المعركة الطويلة أنّ أدواتها لم تعد عسكرية فقط. الإعلام، الرأي العام، الاقتصاد، العقوبات، العملات، الاستثمار، كلّها صارت ساحات اشتباك موازية. وهنا أيضاً، اختارت إيران طريق النفس الطويل: امتصاص الصدمات الاقتصادية، تنويع الشراكات، وتقديم نفسها كشريك موثوق في مشاريع إقليمية عابرة للحدود، من الطاقة إلى النقل إلى الاتصالات.
في المقابل، يعاني المعسكر الآخر من تناقضات داخلية متفاقمة: انقسامات سياسية، ضغوط اجتماعية، تآكل في صورة الردع التقليدي، وتخوّف دائم من تعدّد الجبهات. صحيح أن التفوق العسكري لا يزال حاضراً، لكن التفوق وحده لم يعد كافياً لحسم الصراعات في بيئة معقدة ومتداخلة كالشرق الأوسط.
هنا تتجلّى مفارقة الصراع: القوة السريعة تحتاج إلى انتصارات سريعة، أما القوة الصبورة فتراهن على تغيّر الشروط. كلما طال أمد الصراع دون حسم، كلما ارتفعت كلفة الاستعجال على الطرف الآخر، وكلما بدت استراتيجية الصبر أكثر واقعية. هذا لا يعني أنّ محور إيران يسير نحو نصر سهل أو قريب، بل يعني أنه يعيد تعريف معنى النصر نفسه: ليس إسقاط عدو، بل تقييد حركته، وليس احتلال أرض، بل تثبيت معادلة.
إنّ فتح المجال أمام اتفاقات عسكرية مع الصين لتطوير الأسطول العسكري لا يُقرأ فقط في إطار تعزيز القدرات، بل في إطار إعادة الربط بين البرّ والبحر، بين الإقليم والعالم. فالأساطيل ليست مجرد أدوات قتال، بل أدوات حضور، ورسائل سياسية عابرة للمسافات. حين تُطوّر دولة محاصَرة عتادها العسكري، فهي تقول ضمناً إنّ الحصار لم يعد قدراً نهائياً، وإنّ البحار والسماء المفتوحة لا تخضع لمنطق القوة الأحادية إلى الأبد.
في عمق هذه الاستراتيجية الهادئة، تتجلّى طبيعة الشعب الإيراني ذاته، ذلك الشعب المعروف ببروده الظاهري، ورباطة جأشه تحت الضغط، وقدرته اللافتة على كتم العاصفة خلف ملامح الصمت. هو شعب لا يندفع، ولا يصرخ في أول المواجهة، لكنه حين يقرّر، يفعل ذلك بثقل التاريخ وصبر القرون. ومن هذه الطبيعة الشعبية بالذات وُلدت ملامح السياسة في إيران، سياسة وُصفت قديماً بأنها “تذبح بالقطنة”، لا لأنها خفية أو ماكرة بالمعنى الأخلاقي، بل لأنها تعمل بلا ضجيج، وتتقدّم بلا استعراض، وتُراكم النتائج دون أن تلوّح بها كلّ يوم. هي سياسة تُتقن فن الانتظار، وتجيد تحويل البرود إلى سلاح، والهدوء إلى قوة، والصمت إلى رسالة ردع أشدّ وقعاً من أعنف الخطابات.
وفي قلب هذا كله، يقف الشعب الإيراني بوصفه خزّان الصبر الحقيقي. فالقوة لا تُصنع في المصانع وحدها، بل تُصنع في قدرة المجتمعات على التحمّل، وعلى إعادة التكيّف، وعلى تحويل الضغط إلى دافع. هذه القدرة، مهما اختلفنا حول تقييماتها السياسية، تبقى عنصراً حاسماً في تفسير كيف استطاعت إيران أن تبقى لاعباً مركزياً رغم كلّ ما واجهته من عقوبات وضغوط وعزلة.
ليس الشرق الأوسط اليوم هو الشرق الأوسط قبل عشرين عاماً. الخرائط لم تتغيّر على الورق كثيراً، لكن خرائط النفوذ تغيّرت جذرياً. لم تعد هناك قوة واحدة قادرة على فرض سرديتها بلا منازع، ولم يعد هناك محور محصّن من المفاجآت. وبين هذا وذاك، يتقدّم من يملك الصبر على من يملك الضجيج، ويتقدّم من يُحسن إدارة الخسائر على من يسعى إلى حسم نظيف وسريع.
في النهاية، قد لا تُحسم هذه المعركة قريباً، وقد لا تُكتب نهايتها على طريقة الأفلام الحربية. لكنها تُحسم كل يوم في تفاصيل صغيرة: في اتفاق يُوقَّع، في شحنة سلاح تُطوَّر، في معادلة ردع تُثبَّت، في جبهة تُمسك أعصابها، وفي خصم يُعيد حساباته مرة بعد مرة. وهنا بالضبط، تكمن قوة الصبر: أنه لا يصرخ، لكنه يغيّر مسار الأشياء ببطء، وبثبات، وبلا حاجة إلى إعلان دائم عن نفسه.

