بخلاء معاصرون _ د. أنطوان يزبك

د. أنطوان يزبك –

من يعتقد أن آفة البخل ومرض التقتير و (الكحتنة) ، هي مجرد قصص و نوادر هدفها الضحك والتسلية كما حدّثنا عنها الجاحظ في الماضي في كتابه الشهير : “البخلاء” ؛ يكون فعلا قد ارتكب خطأ فادحا !

البخل لا يموت مع الزمن وهو يتجدد في عصرنا مع نماذج جديدة . لا بل يتفنّن البخلاء الجدد في ابتكار وسائل وحيل ذكية بطرق مبتكرة لا تخطر على بال أحد ، في التقنين والتقتير و عدم صرف الأموال إلى درجة مرضيّة لا شفاء منها !

 في واحدة من ضواحي بيروت في سبعينيات القرن الماضي ، عاش رجل و زوجته من دون أولاد وكانا يرتزقان من دكانة سمانة . اشتهر هذا ” الدكنجي” ببخله الشديد ،لا بل كان من أشدّ الناس بخلا ، يعيش في نظام صارم ولا يصرف ماله على شيء تقريبا إلا نادرا و لحاجات محددة .

كان يرفض رفضا تامّا شراء جهاز تلفزيون لزوجته فكانت المسكينة تضطر الى زيارة الجيران في الأماسي كي تشاهد مسلسلات ( أبي ملحم) وكم توسّلت زوجها كي يشتري تلفزيونا كما كل الناس فكانت تقابل دائما بالرفض الشديد من قبل زوجها البخيل ، متحجّجا بألف حجّة وحجّة ، فالقِرش متى دخل جيبه لا يرى نور الشمس مجددا كما يقول الناس في وصف البخيل .

 عرف عن هذا الرجل تقنياته المبتكرة في مجال البخل ومنها أنّه كان يحتفظ بعلب الكبريت الفارغة القديمة ، و يعمد إلى سحب ثلاثة أو أربعة أعواد كبريت من عدد من العلب الجديدة و يضعها في العلب الفارغة ويبيعها : العلبة بقرشين ونص بدل خمسة قروش ، على أساس أنها مستعملة !

 و من بين مآثره أيضا في فنّ البخل الحرص على عدم رفع صوت جهاز الراديو الترانزيستور الصغير ، معتقدا أنّه بذلك يقتصد في مصروف البطاريات فكان يضعه على صوت خافت ويستمع إلى نشرة الأخبار ملصقا أذنه بالراديو.

 أمّا عن طعامه وزوجته المسكينة فحدّث ولا حرج الناس يقولون بدون استثناء عنه : (مجوّعها لهالمعترة ) فمن اللحام يطلب أن يمنحه العظام مجانا ليطبخها مع الحبوب ويستمدّ بعض الفيتامينات من مرقتها وهو يتحجج أن الفائدة والغذاء يأتيان فقط من زوم العظام وليس من اللحم بحدّ ذاته إذ أنها تحتوي على مغذيّات للجسم والعضلات . أمّا الخضار فكان يجبر زوجته على طبخ البقايا الكاسدة لأن الخضار الطازجة للبيع : “وجه السحارة للزبائن” ! ويحتفظ بالنفاوة لاستهلاكه الشخصي و زوجته ، وكم بكت المسكينة و استجدت و رجت زوجها البخيل العنيد كي يسمح لها ولو لمرة واحدة في الشهر أن تطبخ خضارا طازجا قائلة و دموعها تغطي وجهها :

نحن لسنا حيوانات ، نحن بشر وبني آدميين ، ألا يحقّ لنا أن نأكل طعاما مثل سائر الأوادم ونتغذّى بطريقة معقولة و صحيّة ؟ فيستشيط البخيل القذر المنحوس غضبا على زوجته وينعتها بالمبذّرة ناكرة الجميل والنعمة و أنها سوف تخرب بيته .

 ذات يوم دخلت سيّدة الى الدكان وطلبت كيلو باذنجان ، فأخذ البخيل يقلّب باحثا بين الباذنجان على الحبّة المناسبة لكي يعثر على واحدة تجعل إبرة الميزان تستقر على كيلو واحد لا زيادة ولا نقصان . فلمّا لم يفلح بعد أن قلّب وشقلب و بعثر فرش الباذنجان كلّه ، اهتدى الى حيلة فتناول باذنجانة و شقّها بالسكين الى نصفين ليكون الكيلو كيلو بالتمام لا زيادة ولا نقصان ، فصرخت السيّدة مستنكرة و مستهجنة :

يقبر عيونك شو كحتي و واطي، كيف بنا ناكلها هيدي مقصوصة ، مش شايف السكينة ملوثة وكلها صدي… ولو لهون وصلت معك ….

كنت خليها متل ما هي وبدفعلك الفرق ، يا …

دار جدال بينهما لم ينته إلا بعد الاعتذار من السيدة ، التي لم تكن تدري أن هذا الدكنجي البخيل فوق مساوئه الكثيرة ، لم يكن أيضا، يجيد القاعدة الثلاثية في الحساب لينصف زبائنه ، فكان فقير العقل والتدبير على حدّ سواء !

الموقف الأكثر إحراجا حصل مع هذا البخيل الكحتي حين مرض مرضا شديدا ورفض أن يذهب الى الطبيب أو المستشفى للعلاج ، فأخذت زوجته تبكي وتتضرّع مستعينة بالجيران وتخبرهم بحالة زوجها فهرعوا للمساعدة و أخذوا يقنعوه بوجوب الخضوع للعلاج ، فلم يرضَ لا بل أخذ يتذمّر ويقول للجيران :

 لا نستطيع أن نتحمّل كلفة العلاج :

[ نحنا يا عمّي جماعة مستورين مش ميسورين ] .

فأقنعه أحدهم بالذهاب الى المستوصف حيث المعاينة والأدوية مجانيّة فقبل بعد أخذ ورد وجدل طويل فهو لم يكن مقتنعا حتى بوجوب تناول الدواء ولو كان مجانيا ! و لم ينتهِ الأمر في مرحلة الإقناع ؛ الشطارة الآن أن تفلح زوجته في إقناعه بالإغتسال وتبديل ثيابه المتّسخة قبل أن يكشف عليه الطبيب ، لأن البخيل يعتبر استهلاك الصابون والماء الساخن رجس من أعمال الشيطان !!!

هذه هي حال البخلاء في كل زمان ومكان . قال الإمام علي :

” البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الاغنياء “.

و البخيل لمن لا يعلم ، هو في الحقيقة شحّاذ دائم مثل أي متسوّل على الطريق يبدأ نهاره بالشحاذة ، و ينهيه بالشحاذة.

عرف الأدب العالمي العديد من الكتّاب الذين تناولُوا قصص البخلاء من مسرحيّة البخيل لموليير و قصة ليلة الميلاد لتشارلز ديكنز التي تصوّر لنا البخيل “ابن عازر سكروج” وصولا الى تحف الأدب العربي التي تحدثت عن البخل، نذكر من الأدباء الكبار الذين تكلموا في هذا الموضوع :

الجاحظ بالطبع وهو أشهر من كتب عن البخل، حيث وضع كتاب “البخلاء” ، و الذي يعدّ من أهم الكتب في هذا المجال .

كذالك نذكر أبي حيّان التوحيدي الذي ألّف كتاب “الصداقة والصديق” الذي يتضمّن بعض القصص عن البخل.

وإبن قتيبة الذي وضع كتاب “عيون الأخبار” الذي يتضمن بعض القصص عن البخل .

ولا ننسى المتنبي الذي كتب قصيدة عنوانها : “التي تذكر البخل” تتحدّث عن البخلاء.

و أبو الفرج الأصفهاني الذي ألّف كتاب “الأغاني” الذي يتضمن بعض القصص عن البخل.

هؤلاء الكتاب وغيرهم كتبوا عن البخل بطريقة فنية وجمالية، وتناولوا هذا الموضوع من مختلف الزوايا ، ولا يزال البخل في طبيعة الناس حتى يومنا هذا خاصة الزعماء في بلادنا الذين سرقوا مال الرعيّة وصرفوه على البغيّة، فكان ما كان من مآسٍ و خراب لم تشهد له أمتنا في التاربخ من مثيل .

Leave A Reply