مكتبات جهنم

“دانتي وفيرجيل أمام أبواب الجحيم” لـ غوستاف دوري

 

ليلى عبد الله بنحسن*

لم يكن من المفترض أن يتم فصلهما عن بعضهما البعض، فقد كان من المقرر أن يواصلا الطريق معًا، لكن عندما وصلا أمام البوابة العملاقة، وبعد أن عبرا ذلك الممر الضيّق تمت تفرقتهما.

أخذوها إلى فناء تكدّست فيه أكوام الحطب، كل كومة أعلى من جبل ايفرست. اقتادها رجلان ضخمان نحو غرفة في آخر الفناء، وبين تلك الأكوام مرّ ثلاثتهم على درب لا يزيد عرضه عن نصف المتر.

ما أن بلغت الطرف الآخر من المسلك، أمرها أحد الرجلين بألّا تبرح مكانها حتى يتم مناداتها، فلا سبيل لتتقدّم أكثر حتى يتم إحماء جهنم بشكل جيد، فالحطب الذي يلقونه بداخلها لم يكن كافيًا.

أما هو فقد أُخذ إلى بستان شاسع مزروع بشتى أنواع الأشجار المثمرة، يعبره نهر من العسل وآخر من الخمر وثالث من الحليب، أين تغتسل على ضفافه حسناوات بديعات.

قاده غلامان إلى ظل كرمة تتدلى منها عناقيد عنب سوداء، أين افترشت الأرض زرابي فارسية بديعة النقوش ووسائد من ريش نعام موضوعة كيفما كان. لقد شفعت له قراءاته في آخر أعوامه العشرة، فأدخلته الجنة. ذلك أنه قرأ كتاب الرب لأزيد من سنتين. شرّح سوره وفصّل في آياته، واستمرّ يدرس الفقه وعلوم الدين والأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة. فأصبح عليما فيها حافظًا كلام الكتاب المقدس وما قاله الأولون على عكسها تمامًا حين قادها إلى الجحيم كتاباتها التي لم تخضع يومًا إلى الأخلاق والدين، بل كان رأسها المحشو بكل ترهات العالم ما سيّرها إلى ما انتهت إليه. لقد كان رأسها مليئًا بكل ما لن يدخلها الجنة: فلسفات وهرطقات كتّاب لا يرون العالم إلا من خلال معادلات رياضية وخوارزميات وعلوم دنيوية بغيضة.

لكن الجميل في كل ما حصل لهما وإن افترقا، أنهما ظلّا على اتصال، فبطريقة ما، تمكنا من الاحتفاظ بجواليهما، واستمرّا في محادثة بعضهما البعض كل يوم. هكذا حدثها عن الملل الذي صار يعيشه رغم حياة البذخ التي تحيط به، فالوقت يمضي ببطء شديد حيث كان، حتى أنه فكّر في زخم الملل الرهيب والسأم اللامنتهي، أن ينهى بحثًا علميًا اشتغل عليه لسنوات قبل أن يباغته الموت. كان ليفعل ذلك بلا شك، مثبتا بشرية النصوص الدينية ونأيها عن السماء، كما تمنّى دائمًا.. لو فقط امتلك ورقًا وقلمًا، لكنها كانت جنة بلا أوراق وأقلام.

أما هي فقد أخبرته بأنها تنعم ببعض السكينة حيث كانت، وأن لا شيء يعكر صفو المكان إلا طقطقات الحطب عندما يشتعل. عدا ذلك، فهي مستغرقة في القراءة، فقد عثرت في أركان الفناء الذي تسكنه على إحدى المكتبات التي أٌوتِيَ بها إلى جهنم لإحراق كل كتبها، وبما أنها ما زالت في حالة انتظار إلى أن يحمى الجحيم، فقد استغلت الوقت في القراءة.

في الحقيقة، لم يكن دخولها المكتبة هيّنًا، فقد جُعل ببابها كلبان عملاقان هجينان يحرسانها، وقبلهما يصطف حراس يشبهون في الضخامة والعضلات مصارعي الكوليسيوم، مع اختلاف مسرف في الوجه، أنهم كانوا من البشاعة ما يخلق الرعب في قلب أي كان. لكن ذلك لم يوقفها، فقد كانت بلا ريب ربة الجمال والغواية.. سيّدة الاشتهاء وأنثى الخليقة الأولى، ذلك أنها ما أن خطت أمام الحراس بضع خطوات وابتسمت، حتى انفطرت القلوب وزاغت الأبصار، ليؤذن لها بالمرور من غير أن تطلب حتى فُتحت أمامها الطريق، ثم ما كادت تتجاوز الحراس المتسمّرين في أماكنهم، حتّى مدّت يديها، مفرجة بين ساعديها، رافعة كتفيها وكأنها تستعد لتطير. وفجأة، انقلبت إلى بومة وطارت في السماء، محلقة فوق الكلبين الضخمين، لتستقر أخيرًا داخل المكتبة، لا يلاحقها إلا تحديق الحراس ونباح الكلبين الذي انتهى بمجرد أن وضعت قدميها على الأرض إلى صمت يشبه البكم.

كان ذلك قبل أيام من اتصالها به لتعلمه عن اكتشافها الرائع. لقد وجدت بالصدفة كنزًا في المكتبة مخفيًا بين الرفوف الكثيرة.

لم يصدق عينيه وهو يرى الصورة التي أرسلتها إليه. “يا إلهي” صرخ وهو ينظر إلى صورة حاسوب محمول موضوع بين رزمتين كبيرتين من الكتب. صرخ مجددًا بجنون وهو يرى صورًا أخرى لمجلدات بان على غلافها الجلدي القدم والاهتراء، مصحوبة بجملة واحدة لا غير ” هذه من أقدم النسخ الموجودة في العالم لبعض مؤلفات ابن رشد”.

كانت هذه الصور كفيلة لإقناعه بما لم يعتقد أنه سيقتنع به أبدًا. قرر وانتهى الأمر، سيغادر الجنة ويلحق بها في المكتبة، فهناك بمقدوره الشروع في بحثه والكتابة مجددًا، بل باستطاعته أيضًا الانتهاء منه قبل أن تُحمى جهنم وينتهي زمن الانتظار، فثلاثة أرباع البشرية هناك، والحطب ما يزال مكدسًا لم تلتهمه النيران بعد، وجهنم أوسع من فرج مومس قديمة.

ابتسم لهذا التشبيه الذي فاجأ رأسه للحظة، ثم وقبل أن يغادر الابتسام وجهه راودته فكرة غريبة، سمحت له بالخروج من الجنة من غير رجعة.

في الغد عندما مرّ الملكان المسؤولان على تقديم أصناف الأكل والشراب، تفاجأا بمشهد مروع لم يحدث مثله من قبل. كان فيه الغلام ملقى على الأرض ينزف من أذنيه وأنفه، بعد أن تجاوزا هول الصدمة انطلق أحد هما في حركة سريعة وطار بشكل عمودي متجهًا صوب العرش العظيم، أما الثاني فنادى بصوت يشبه الصفير على أحد الحراس. لم يدم الحكم سوى بضع دقائق ثم اقتيد إلى الضفة الثانية.

لمح ليليث واقفة غير بعيدة عن البوابة الكبرى، أسرع الخطى وهو يعبر الممر الضيق بين أكوام الحطب المتزايدة، استقبلته بابتسامة عريضة ثم سحبته من يده وانطلقت به إلى المكتبة العملاقة.

كاتبة تونسية*

المصدر: الترا صوت

Leave A Reply