معدلات سوء التغذية بين الأطفال في لبنان إلى ارتفاع فأين الحلول؟

تسجل في لبنان نسبة هزال مرتفعة بين الأطفال، مما يعتبر أحد أشد أشكال سوء التغذية. وأتت الأزمات المتتالية في ذلك البلد لتزيد الوضع سوءاً وتؤدي إلى ارتفاع أكبر في نسبة الهزال وغيرها من أشكال سوء التغذية لدى الفئات الهشة، خصوصاً الأطفال والنساء، نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادي المتردية. فسنوات الأزمة الأربع تركت أثرها على الأسر في لبنان التي تكافح للعيش وتأمين الغذاء للأطفال. وتظهر أرقام الـ”يونيسف” أن ثلاثة أطفال من أربعة دون سن خمس سنوات يعانون الفقر الغذائي، وواحداً من أربعة يعاني الفقر الغذائي الحاد. وتعتبر التغذية السليمة جوهرية في مرحلة الطفولة لتأمين نمو صحيح، وتعزيز القدرات الذهنية والإدراكية، وحماية الصغار من المشكلات الصحية في المستقبل.

نتائج صادمة متوقعة

لم تصدر النتائج النهائية للمسح الوطني الأول للمغذيات الدقيقة والفيتامينات الأساسية للفئات الأكثر ضعفاً في لبنان، أي الأطفال الذين هم في مرحلة ما قبل الدراسة والفتيات المراهقات (LIMA)، لكن رئيسة دائرة التغذية في وزارة الصحة العامة وفاء حوماني تتوقع أن تكون نتائج هذه الدراسة الأولى من نوعها، “صادمة”. وشملت الدراسة كل المناطق اللبنانية لتقويم حالة سوء التغذية بمختلف أشكالها استناداً إلى مستويات المؤشرات الغذائية الدقيقة. وكانت الأزمات المتعددة قد أدت إلى ارتفاع نسبة الحرمان الغذائي وتراجع نوعية الغذاء، خصوصاً بين الأطفال والمراهقات والنساء. أما هذا المسح الذي أجري بالتعاون بين وزارة الصحة اللبنانية والـ”يونيسف”، وشركاء آخرين في مجال التغذية، فيساعد على تطوير البرامج التي تساعد على معالجة أشكال سوء التغذية، ونقص الفيتامينات والمعادن، والسمنة، والأمراض المزمنة غير المعدية. وتعتبر هذه المؤشرات الغذائية الدقيقة من المعايير الأساسية لتحديد معدلات سوء التغذية في البلاد، إذ يحتاج إليها الجسم بكميات صغيرة، وتحمل أهمية قصوى بالنسبة له. وكانت الأرقام السابقة والإحصاءات قد عكست ارتفاعاً في معدلات سوء التغذية بمختلف أشكاله، كما أكدت منظمة الصحة العالمية أن ثمة انتشاراً كبيراً للأمراض غير الانتقالية في لبنان كالسكري، والسمنة، وسوء التغذية، والعوز الغذائي، وارتفاع ضغط الدم، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع نسب سوء التغذية بشكليها الأساسيين، النحول الزائد والسمنة.

وفي دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” في عام 2019، بلغ معدل انتشار سوء التغذية تسعة في المئة، فيما سجل ارتفاع أكبر في ظل الأزمة. وأكدت نتائج دراسة أجرتها الـ”يونيسف” لعام 2020، أن 200 ألف طفل دون سن خمس سنوات يعانون أحد أشكال سوء التغذية، كالتقزم والهزال وفقر الدم.

الفقر أهم الأسباب

ووفق ما توضحه حوماني، تعتبر مصادر الحديد الأساسية، كاللحوم الحمراء، مكلفة مقارنة مع أطعمة أخرى. لذلك، في ظل الأزمة عانى مزيد من الأطفال من فقر الدم، ونقص الحديد، نتيجة تردي الوضع المعيشي وعدم القدرة على تأمين هذا النوع من الأغذية. لذلك، بلغت معدلات فقر الدم نسبة 41 في المئة. وأظهرت الدراسة أن نسبة سبعة في المئة من الأطفال تعاني التقزم، وأن نسبة 36 في المئة من المواطنين عامة أرغمت على إحداث تغيير في النظام الغذائي المتبع بسبب الوضع المعيشي المتردي في ظل الأزمة.

أما في ما يتعلق بالوزن الزائد، وهو أحد أشكال سوء التغذية أيضاً، فبلغت نسبته 13.38 في المئة، فيما بلغت نسبة السمنة 10.7 في المئة. وتبدو الأرقام مقلقة أيضاً في ما يتعلق بالاضطرابات الغذائية كالبوليميا والأنوركسيا وقد بلغت نسبتها 36 في المئة. وتبين في دراسة تناولت طلاب المدارس الذين هم أكبر سناً أن نسبة زيادة الوزن هي 13.4 في المئة، والسمنة 24.5 في المئة.

وتابعت حوماني “من الطبيعي أن يكون الفقر سبباً رئيساً لسوء التغذية، لذلك زادت الأزمة الوضع سوءاً. في الوقت نفسه يعتبر نقص المعرفة والتوعية الغذائية من المسببات الرئيسة أيضاً، إلى جانب النظم الاجتماعية الهشة غير المعدة للاستجابة السريعة أمام هذا النوع من المشكلات”. وأضافت أن “للتركيز على سوء التغذية أسبابه، ومن الطبيعي أن تعتبر السلطات الصحية النتائج الصادرة مصدر قلق لما لها من تداعيات من نواحٍ عدة. ويحصل النمو بشكل أساس في مرحلة الطفولة، ومن الطبيعي أن يؤدي سوء التغذية فيها إلى نقص النمو الجسدي والذهني. وتنتج منه مشكلات صحية عدة إضافة إلى ما يسببه من نقص في نمو القدرات الإدراكية، والقدرة على التركيز، والنمو الفكري. فلا تقتصر المشكلة على النحول الزائد أو السمنة، بل ترتبط بانعكاسات سوء التغذية على النمو، هذا ما يؤكد أهمية الاستثمار في الطفولة لمحاربة سوء التغذية والوقاية منها ضمن السياسات الصحية. وهذا ما يسهم في الحد من الإنفاق في مرحلة لاحقة”.

تغيير تدريجي

وتبرز أهمية التغيير من مرحلة الطفولة بحسب درجة حدة سوء التغذية، وفق خطة مدروسة بعيدة المدى. وقد تقتضي الخطة بالعمل على زيادة معدل الوحدات الحرارية اليومية تدريجاً، وعلى زيادة المؤشرات الغذائية الدقيقة في الغذاء. وفي ظل الأرقام المقلقة التي سجلت في مختلف المناطق اللبنانية، أنشأت وزارة الصحة العامة 25 مركزاً لمعالجة سوء التغذية ضمن شبكة الرعاية الصحية، مع طواقم مدربة لمواجهة سوء التغذية. من جهته يشير مدير برنامج التغذية في الـ”يونيسف” في بيروت، أمیرحسین یاربارفار في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إلى أنه “أياً كان شكل سوء التغذية، وسواء سجل على المدى القصير أو كان بعيد المدى، فإنه هو يؤثر حتماً على نمو الطفل، وعلى نمط حياته، وعلى صحته الجسدية والذهنية، وينطبق ذلك على السمنة والتقزم الذي ترتفع معدلاته في لبنان أيضاً. ولتحديد مشكلة سوء التغذية ونقص النمو، يعتمد النمو من حيث القامة بالنسبة إلى العمر كمعيار، كما أن النقص في المؤشرات الغذائية الدقيقة كالفيتامين “د” والحديد وغيرهما، من المعايير أيضاً. فعلى رغم أنه قد لا تظهر أعراض لهذا النقص بالفعل، فإن له أثراً واضحاً وجوهرياً على نمو الطفل وصحته”. وأضاف “في الواقع، أظهرت الأرقام أن الأطفال الذين هم دون سن السنوات الخمس يعانون أكثر الهزال، إضافة إلى التقزم. في المقابل، يسجل ارتفاع في معدلات السمنة بين الأطفال الذين تخطوا هذه المرحلة العمرية، بسبب السلوكيات الخطأ والتركيز على الأطعمة السريعة التحضير وغيرها من الأطعمة غير الصحية الأقل كلفة الغنية بالسكر والدهون والوحدات الحرارية، خصوصاً مع ارتفاع معدلات الفقر. فهي تؤدي إلى السمنة بسبب غناها بالسكر والوحدات الحرارية فيما تفتقد القيمة الغذائية والعناصر الغذائية التي يحتاج إليها جسم الطفل لنمو سليم”.

بين الفقر والسلوكيات الخطأ

في كل بلد يعاني ارتفاع معدلات سوء التغذية، ترتبط المشكلة بعوامل متعددة ولها علاقة بالكمية والنوعية وبعنصر التنويع في الغذاء، إضافة إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية حكماً. وعلى حد قول ياربافار، “يبدو واضحاً أن تغذية الأطفال، هي دون الكمية المطلوبة بالنسبة إلى النظام الغذائي المناسب لأعمارهم، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية في لبنان، كما تطرح مشكلة جودة الغذاء لعدم احتوائه على أطعمة لها قيمة غذائية عالية. ويبقى التنويع مشكلة لا يمكن الاستهانة بها”.

من جهة أخرى، قد تؤدي السلوكيات الغذائية الخطأ إلى سوء التغذية، بدءاً من الطفولة مع استبعاد الرضاعة الطبيعية في فترة معينة من حياة الطفل. لذلك، من الخطوات الأساسية المطلوبة لمكافحة سوء التغذية، تأمين الخدمات التي تسمح بنشر الوعي حول التغذية السليمة للأم والطفل.

وقال مدير برنامج الغذاء في الـ”يونيسف” في بيروت، “تعتبر هذه من الخطوات الأساسية ضمن برنامج ’يونيسف’ الهادف إلى مكافحة سوء التغذية في البلاد، إذ تستدعي الوقاية من سوء التغذية تضافر الجهود بين مختلف الجهات المعنية ضمن استراتيجية شاملة، سواء في القطاع الطبي أو في مجال التغذية أو التربية للحد من أثر المحيط على الطفل وتحسين اختياراته حتى يستخدم إمكاناته المادية البسيطة في المكان الصحيح، والعمل الاجتماعي نظراً إلى تداعيات الأزمة”.

وأوضح ياربافار أن “ثمة صعوبة كبرى في العودة إلى الوراء في حال مواجهة مشكلات في النمو كالتقزم نتيجة سوء التغذية. لذلك تعتبر الوقاية منذ أولى سنوات الحياة أساسية لتجنب حدوث ذلك. نحن نؤمن بالفعل أن الأيام الألف الأولى في الحياة تشكل مرحلة ذهبية في حياة الطفل، ولا بد من الاستثمار فيها لحمايته في السنوات التي تلي، والحفاظ على نموه السليم، وعلى قدراته الإدراكية وصحته. لكننا نركز أيضاً على المراهقين، خصوصاً الفتيات لاعتبارهن أمهات المستقبل، وتعتبر إحاطتهن جوهرية حفاظاً على صحتهن وصحة أطفالهن في المستقبل من خلال التوعية والتغذية السليمة. فلكل مرحلة في الحياة أهمية، ولا بد من السعي إلى تلبية حاجات الأطفال أياً كانت كلفة الأطعمة التي يتناولونها، هذا وقد أثبتت الأرقام أن كل دولار تنفقه الحكومات في مرحلة الطفولة في هذا المجال، يسمح بالحد من الإنفاق بمعدل 10 إلى 17 دولاراً لمراحل لاحقة. وإلا، فتتحمل الحكومات مليارات الدولارات من الخسائر في حال عدم إعطاء الأهمية اللازمة للوقاية من سوء التغذية وتجنب المضاعفات”.

يمكن أن تساعد التوعية فعلاً في حماية الأطفال عبر تحسين اختياراتهم للمستقبل. هذا، من دون أن ننسى أهمية وضع أنظمة تضبط عمليات التسويق للأطعمة المصنعة وتلك السريعة التحضير ذات القيمة الغذائية المتدنية، كما يحصل في دول عدة لها استراتيجيات مدروسة في مجال التغذية ضمن سياساتها الصحية، حتى إنها قد تفرض على الشركات المنتجة تعزيز العناصر الغذائية في منتجاتها، بشكل يمكن فيه ضبط السوق حتى لا يتعارض مع مصلحة الطفل.

كارين اليان ضاهر – اندبندنت

Leave A Reply