حرب غزة: أيّ مسارات غداً؟

سبعة أسابيع ونصف أسبوع مرت على الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة والسياسة الاسرائيلية أسيرة للاهداف التي وضعتها الحكومة غداة “الصدمة” المتعددة الأبعاد التي شكّلها هجوم “حماس” بمختلف تداعياته البشرية والعسكرية والامنية والسياسية على “الدولة القلعة” التي لا تُقهر… إسرائيل اليوم أسيرة الاهداف ذات السقف المرتفع التي اعلنت عنها في اليوم الاول للحرب والتي يمكن تلخيصها بالقضاء كليا على “حماس” والسيطرة الامنية على غزة، على ان تدير القطاع، تحت رقابتها وتحت سقف رؤيتها الامنية، سلطة سياسية ادارية. سلطة مركّبة قد تكون فلسطينية أو عربية – دولية. وكان واضحا منذ البداية وتكرس الامر مع كل يوم يمضي ان ذلك بمثابة هدف غير واقعي كليا. تعزز هذا التوجه الهوية العقائدية والسياسية للائتلاف الحاكم من احزاب دينية اصولية متشددة تحظى بالطبع بالدعم من اليمين المتشدد التقليدي الذي يمثله بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة. سياسة “الهدن المتكررة” هي اكبر تنازل يمكن ان تقدمه الحكومة، وقد اضطرت للقبول بهدنة “ممتدة” لأيام اربعة، كبديل عن “هدن الساعات”، والقابلة للتمديد والتكرار لاحقاً للافراج عن الاسرى لدى “حماس” ضمن سياسة تبادل الاسرى. اكثر من وزير اسرائيلي هدد بالانسحاب من الحكومة في حال لم تستأنف حربها على “حماس” وفي طليعة هؤلاء ايتمار بن غفير وزير الامن القومي، الامر الذي يهدد الحكومة بالسقوط وما ينتج عن ذلك من شلل سياسي.

خيار السيطرة الامنية بعد التخلص الكلّي من “حماس”، كما أشرنا سابقا، اثبت انه غير واقعي وغير ممكن التحقيق. الخيار الآخر الذي حاولت الحكومة الاسرائيلية فرضه في بداية الحرب، خيار التهجير، بإخراج نسبة كبيرة من سكان غزه من القطاع، واقامة مخيمات لاجئين تحت عنوان الموقت الذي يدوم في حقيقة الامر على الاراضي المصرية، أمر مرفوض بشكل واضح وحازم من طرف مصر وكذلك الفلسطينيين بالطبع وغير قابل للتحقيق. خفضٌ جديد للهدف الاسرائيلي، من دون الاعلان عنه رسميا، يتمثل بمحاولة السيطرة على شمال القطاع وتحويله الى منطقة عازلة بعد طرد السكان والتخلص من “حماس” في تلك المنطقة، ودفع السكان نحو جنوب القطاع، أمر غير قابل للتحقيق ايضا لأسباب عسكرية بشكل خاص.

معادلة أخذت تستقر في الحرب الاسرائيلية على غزة قوامها عدم القدرة على تحقيق الاهداف التي وُضعت في البداية وتغيرت نحو تخفيضها من دون المسّ بجوهرها كما اشرنا. ذلك قد يدفع إسرائيل الى الدخول في حرب ممتدة ومفتوحة في الزمان. حرب قد تشهد تصعيدا وتخفيضا في القتال ضد القطاع لتحقيق الامن بحسب المفهوم الاسرائيلي والمستحيل التحقيق كما اتضح منذ اليوم الاول للحرب. ومن غير المستبعد ان يزداد التوتر في الضفة الغربية وترتفع وتيرته كما يدل على ذلك تكرار الاعتداءات من طرف المستوطنين بدعم من القوى العسكرية والامنية الاسرائيلية على السكان الفلسطينيين بغية محاصرتهم والعمل على تهجيرهم لاحقا. منطقة جنين وجوارها صار يسميها البعض غزة الصغيرة. واذا لم تتوقف الحرب القائمة في غزة فمن غير المستبعد ان تنطلق انتفاضة في الضفة الغربية قد لا تكون سلمية، في ظل تزايد حدة سياسة التهويد التي تتبعها إسرائيل، على صعيدي الجغرافيا والديموغرافيا، لاستكمال ضم الضفة الغربية الى إسرائيل، تحت عنوان إقامة “إسرائيل الكبرى”. هدف لم يكن غائبا عند الحكومات السابقة، ولكن مع الحكومة الحالية صار معلنا والعمل لتحقيقه ناشطا ومتسارعا في ظل موازين القوى القائمة وصمت دولي فاضح ومستمر رغم ضرب إسرائيل كل القرارات الدولية وبالاخص قرارات مجلس الامن ذات الصلة بعرض الحائط. توسع النزاع نحو الضفة، ولو بشكل مختلف عن غزة، واستمراره في ما لو حصل قد يهدد بالتوسع الى نزاع اقليمي. نزاع قد يصل اولا الى لبنان، وذلك رغم الاهتمام الدولي الواسع بابقاء لبنان خارج النزاع، ورغم الاستمرار في الحفاظ على قواعد الاشتباك القائمة والتي شهدت تصعيدا متوازنا ثلاثي الأبعاد في الجغرافيا والاهداف وطبيعة القوة النارية من دون الانزلاق الى حرب مفتوحة .

التوصل الى وقف كلّي للقتال هو الهدف الواقعي والاخلاقي الوحيد الذي يمنع من الانزلاق نحو حرب مفتوحة وذات تداعيات كبيرة على كل الصعد وعلى الجميع. هدف ترفضه بشكل قاطع الحكومة الاسرائيلية وتستند الى “تفهّم” غربي باعتبار ان حربها المفتوحة بالاهداف والزمان والجغرافيا هي عمل دفاعي، وهذا بالطبع منطق مناقض بشكل كلي للواقع وللقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة. بداية التغيير في المواقف الغربية بدأت بالظهور ولو بشكل بطيء. مواقف مختلفة في ما بينها في درجة الدعم لإسرائيل وتراجع ولو طفيفا لهذا الدعم من جهة ومواقف لدول وإنْ كان عددها اقل، تعارض بشدة الحرب الاسرائيلية من جهة اخرى، وتدعو لوقف اطلاق النار.

انسداد الافق امام الحل الاسرائيلي الالغائي للشعب الفلسطيني كشعب له حقوقه الوطنية كما تدل على ذلك التطورات اليومية، وازدياد ضغط الرأي العام خصوصا في الدول المؤيدة لإسرائيل، ومخاطر الذهاب نحو المجهول الذي يهدد مصالح الجميع في الاقليم الشرق الاوسطي وخارجه القريب والأبعد، الى جانب ضرورة قيام انخراط ناشط ومتصاعد من قِبل الاطراف العربية والاقليمية المؤثرة وضمن صيغ مختلفة من الاتصال والتواصل مع القوى الدولية الفاعلة، كلها عناصر تساعد وتدفع نحو التوصل لتحقيق هدف وقف القتال كليا. وبعد ذلك من الضروري ان يجري العمل لإحياء مسار مفاوضات السلام. مسار امامه الكثير من العقبات والصعوبات، لكنه اكثر من ضروري لإنقاذ المنطقة من الحروب والصراعات المترابطة والمتداخلة، تلك التي يدفع ثمنها الجميع في اوقات وأشكال واثمان مختلفة .

السلام العادل، رغم الصعوبات العديدة امام بلوغه كما اشرنا، يحقق الاستقرار والازدهار. اما الحرب فتعد بمزيد من الدمار، والسياسات الاسرائيلية خير دليل على ذلك.

الدكتور ناصيف حتي – النهار

Leave A Reply