ما هي رهانات الثنائي الشيعي بعدما أعلن برّي تجميد مبادرته؟

من المرّات القليلة التي يخرج فيها رئيس مجلس النواب نبيه بري عن ديبلوماسيته وواقعيته السياسية المشهودة له، خصوصاً في تعامله مع الشريحة المسيحية، كانت عندما وجّه إليها في إطلالته الأخيرة أصابع المسؤولية عن تضييع فرصة نادرة بالجلوس إلى مائدة الحوار الوطني الذي دعا إليه أخيراً من خلال مبادرته التي أطلقها في ذكرى تغييب الإمام الصدر في 31 آب الماضي.

وأكثر من ذلك، ذهب بري إلى حيث لم يذهب يوماً خصوصاً بعد الطائف، فحمّل تبعة استمرار الشغور الرئاسي لاستمرار الصراعات بين القوى المسيحية المصرّة وفق مقرّبين من عين التينة “على أن تستعيد حرب الإلغاء كلما دعت الحاجة واقتضى الأمر”.

الرجل الضالع في السياسة اللبنانية، الذي اعتاد أن يحسب دوماً خط الرجعة فلا يوغل ولا يفرط، بدا في مواقفه الأخيرة وكأنه يسلك مسلك من طفح كيله وأفاض، فاختار أن يكشف النقاب عن مكنوناته ومصادر استيائه وغضبه، فرأى أن يسمّي الأمور بأسمائها وأطلق ذلك الاستنتاج السلبي، بل شاء أن يكون الطريق إليه متدرّجاً عندما بدأ بالحديث عمّا سمّاه “تضييع فرصة قد لا تحصل في مئة عام” وهي بطبيعة الحال فرصة الحوار، وأعقبها بتوجيه اتهام إلى جهات “ما انفكت لا تريد ملء الشغور الرئاسي”، ويبلغ السقف غير المسبوق عندما يتحدث عن أن المسيحيين بصراعاتهم التي لا تلبث أن تستعر هم “الذين يتحمّلون وزر إدامة الفراغ”.

وبناءً على ذلك، ثمة من يسأل عن سر هذا الأداء الانفعالي الغاضب وغير المعتاد من جانب الرئيس بري، ويمضي في التساؤل عما إن كان بري يفصح فقط عن خيبة أمل لإخفاق مبادرته كما هي العادة ليعود بعد حين بحراك ما أو بمبادرة جديدة.

في معرض البحث عن إجابات لهذه التساؤلات، ثمة من تساوره شكوك إن كان الرئيس بري العالِم بالتفاصيل يعقد بينه وبين نفسه رهاناً جدياً على مسألة أن دعوته إلى الحوار بصيغتها الأخيرة التي أطلقها في 31 آب الماضي، ستجد لها في الوسط المسيحي على الأقل من يستحسنها ويمضي فيها قدماً، وأنها استطراداً قابلة للصرف السياسي على نحو يفضي إلى تسوية داخلية تحظى بستار خارجي فتتوفر لها شروط العيش خصوصاً أنها وجدت رفداً من جانب الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.

وفي الموازاة، ثمة رأي آخر زعم أن الرئيس بري كان يستشرف سلفاً أنه في ظل توازنات القوى الحالية لن تكون دعوته الحوارية المعدلة تلك أحسن نهايةً من سالفتها التي بدأت منذ بداية الشغور الرئاسي.

لذا وجد بري أنه ليس لائقاً به أن يردد مجدداً لازمته السابقة عندما اضطر إلى أن ينعى الصيغة الأولى لتلك الدعوة الحوارية، القائمة على فكرة “اللهم اشهد أنني بلّغت وأدّيت قسطي للعلى”، لذا ذهب إلى أماكن لم يرتدها سابقاً، فحمّل المسؤولية هذه المرة لصراعات القوى المسيحية حصراً. وبذا يكون قد أمّن لنفسه “خروجاً آمناً” عبر رمي الكرة على سواه ومن ثم الانكفاء إلى الظل ليبقى دويّ السجال ودخان ردود الفعل من جانب المتّهمين بالتعطيل يغطّيان هذا الانكفاء.

وبذا يظن الرئيس بري أنه حقق بضربة واحدة ثلاثة مكاسب أساسية دفعة واحدة وهي:

الأول، أنه “أسر” بمبادرته الأخيرة كل الأطراف سواء منها من أشهر دعمه لها أو سارع إلى مناصبتها الرفض وإبداء الاعتراض، إذ كان لزاماً عليه أن يفكر طويلاً ليجد مبررات الاعتراض ومسوّغات اللجوء إلى السلبية. وبذا يكون بري قد خرج من دائرة التعطيل التي حاصره خصومه فيها إلى إطلاق المبادرة.

الثاني، أنه أطلق مبادرته الحوارية وهو يعلن أنها لا تتعارض مع المبادرة الفرنسية، بل هي استتباع عملاني لها وبذا لا يكون في مواجهة “الخماسية” كما نظر فريق الخصوم.

الثالث، أن بري قَبِل بطيّ صفحة مبادرته بعدما يئس لكنه ما لبث أن وضع نفسه في حال انتظار مبادارات الآخرين البديلة، ولا سيما المعطّلين لمبادرته، على شرط أن تكون على قدر من المقبولية والموضوعية.

ويذهب بري بعيداً في التحدّي عندما يكشف عبر مقرّبين منه أنه ليس في وارد الدعوة إلى جلسات انتخاب رئيس “قبل اتضاح الصورة”، وهذا يعني أنه لم يخرج من مبادرته طائعاً أو وجلاً أو باحثاً عمّا يستر.

واللافت أنه منذ أن بادر بري إلى سحب مبادرته من التداول مقرونة بشعار: إنني أدّيت قسطي للعلى، بادر فريق الخصوم إلى الكف عن ترداد لازمة روّج لها طويلاً ومفادها أن الثنائي الشيعي آيل إلى الإذعان للضغوط الخارجية، وبالتالي صار قاب قوسين أو أدنى من سحب مرشحه المعروف والذهاب إلى الخيار الثالث، بل إن كل التحليلات عادت لتتبنّى نظرية أن هذا الثنائي قد عاد إلى التصلّب عند مرشحه الأول. وبذا ثمة من يرى أن الثنائي قد قطع الطريق على المبادرة القطرية وأعاد فتح الأبواب أمام المبادرة الفرنسية، أي المبادرة التي اقتنع بها سابقاً وتبنّاها على أنها الحل.

ولم يكن ذلك مفاجئاً للذين يعلمون أن الثنائي وخصوصاً “حزب الله” يحمّل ضمناً الدوحة مسؤولية “التلاعب” بعقل باسيل. فهي زيّنت له سابقاً فوائد الانضمام إلى محور “التقاطع” وترشيح الوزير السابق جهاد أزعور. وعندما اقتنع باسيل ضمناً بأن المرشح الحقيقي ليس أزعور بل قائد الجيش، سارع إلى فتح قناة التحاور مع الحزب مجدداً ليس بقصد إعادة إحياء تفاهم مار مخايل أو ما يعادله، بل بغية سد أبواب بعبدا أمام العماد جوزف عون. وعندما أبلغته الدوحة بأنه استعجل في التحاور مع الحزب وإمكان التفاهم معه على خياره الرئاسي، خصوصاً أنها طرحت أسماء مرشحين آخرين، ما كان من باسيل إلا أن فرمل من اندفاعه الحواري مع الحزب على نحو صار الحزب مقتنعاً بأن هذا الحوار بلا جدوى على المستوى الرئاسي وأنه يقبل باستمراره من باب التأكيد أنه لا يتعامل مع التيار كخصم مع علمه أنه قد يطول وتكون عوائده متواضعة جداً.

وبالعموم، فإن مصادر على صلة بالحزب تؤكد أن نظرته على المدى القصير تقوم على:

– إبقاء المسار الحواري مستمراً مع التيار.

– الرهان على عودة المبادرة الفرنسية ذات السلّة العريضة الحاوية لخيارت عدة خصوصاً إذا ما أخفق القطريون.

– رهان ضمني على تعديل الرياض من وتيرة حركتها تجاه لبنان على نحو يعدّل من سياسة النأي بالنفس التي تتّبعها منذ زمن.

ابراهيم بيرم – النهار

Leave A Reply