“المركزي” يتمسك بحقّ المودعين… فهل يعيد إليهم الاحتياط؟

يمر الوقت سريعاً حتى نهاية آب المقبل، والكباش القائم بين المصرف المركزي والحكومة حول قوننة الاقتراض لا يزال يتفاعل في غياب أي مخارج تحفظ ماء الوجه لفريقي الكباش وما بينهما المجلس النيابي الذي يرفض رئيسه تشريع الإقراض ما لم يأتِ بطلب إحالة من الحكومة.

أقل من ثلاثة أسابيع هي المهلة الفاصلة عن انتهاء الشهر وأوان دفع الرواتب والأجور للقطاع العام. والمشكلة لا تكمن في مسألة التشريع الذي يطالب به المجلس المركزي لمصرف لبنان بإدارته الجديدة، وانما في الاسباب الكامنة وراء هذا الطلب، او بالأحرى وراء رفض الحاكم الجديد بالإنابة وسيم منصوري والنواب الثلاثة الآخرين الاستمرار في سياسة اقراض الدولة من دون تشريع يجيز لهم ذلك.

فالحكومة، ومنذ تفاقم الانهيار النقدي لجأت، وبهدف تحسين مستوى الرواتب، الى الصرف على منصة صيرفة بالدولار الأميركي. وهذا الامر رتب على المصرف المركزي مسؤولية تأمين الدولار لزوم الرواتب بقيمة تتجاوز 80 مليون دولار شهرياً من خلال اللجوء الى الاحتياطات الأجنبية، علماً ان الحاكم السابق رياض سلامة لجأ في بعض الأحيان الى السوق او الى حقوق السحب الخاصة التي تراجعت قيمتها في شكل كبير ويجري التكتم على حجمها وسط معلومات تؤكد انها لم تعد تتجاوز 250 مليون دولار!

فالمجلس المركزي يرفض السير في الطريق السهل عبر مدّ اليد الى ما تبقّى من الاحتياط، وهو لهذه الغاية يرفع السقف عالياً من اجل دفع الدولة الى العودة الى دفع الرواتب بالليرة اللبنانية، ما يخفف الضغط على الاحتياط، ويجنّب المصرف المركزي استعمالها.

يدرك الحاكم بالإنابة ونوابه ان تهديداتهم لن تلقى صدى حكوميا كما هو حاصل راهناً، كما يدركون انهم عاجزون عن التنصل من تحمّل مسؤولياتهم، ولكنهم في المقابل، يدركون ان تمويل الدولة ليس من مسؤولية المصرف المركزي، بل هو من مسؤولية قانون الموازنة الذي يُفترض ان يؤمّن الإيرادات الكفيلة بتغطية الحاجات التمويلية. من هنا، فإن الضغط يذهب في اتجاه دفع الدولة الى تأمين التمويل من خلال إيراداتها وتحسين جبايتها والبحث عن الموارد المالية الكفيلة بتغطية الإنفاق، وليس الاستسهال عبر اللجوء الى المصرف المركزي بذريعة ان انهيار الليرة أدى الى تراجع القيمة الشرائية لها.

هي إذاً أسابيع ضاغطة في اتجاه وضع الدولة على المسار السليم لاستعادة توازنها المالي، والفرصة امامها متاحة لذلك وهي في صدد درس مشروع قانون موازنة 2023، وتعدّ مشروع 2024، في مسعى لتقديم المشروعين معاً الى المجلس النيابي. لكن ثمة مخاوف من ان تذهب الحكومة الى الطريق السهل الآخر الكامن في زيادة البنية الضريبية تحت مبرر ان قيمة الرسوم والضرائب اليوم ضئيلة جداً مقارنة مع الخدمة المقدمة، كما قال وزير المال اول من امس، متناسياً ان الضرائب والرسوم تجبى اليوم من دون خدمات مقابلها!

لمصادر نقدية نصيحتان توجههما، احداهما الى الدولة ومفادها إما اللجوء الى الحساب 36 لتغطية حاجاتها والعودة الى اعتماد العملة الوطنية لسداد الرواتب والأجور، وإما الطلب الى مصرف لبنان ان يلعب دور الوسيط فيؤمّن النقد الأجنبي من السوق، تماماً كما فعل رياض سلامة في الأشهر الأخيرة قبل انتهاء ولايته، حفاظاً على بعض الاحتياطات لئلا يسلّم خزينة “المركزي” فارغة. ولعل هذا ما قصده منصوري عندما اكد امام اكثر من طرف رسمي وغير رسمي استوضحه عما سيفعله اذا لم يصدر القانون، ان “المركزي” مستعد ان يسهل دفع الرواتب ويكون الجسر في عملية كهذه.

النصيحة الثانية تذهب في اتجاه المجلس المركزي نفسه، وتقضي بدعوته الى رد الاحتياطات المتبقية الى أصحابها. بهذه الطريقة، يُخرج الحاكم ونوابه الاحتياطات من التداول ويبدأ عملية رد جزء من الأموال عبر تعاميم وآليات تتيح تخفيف الضغط عن المودعين، ولا سيما منهم الصغار.

يدرك الحاكم ونوابه ان أدوات حماية الليرة باتت محدودة جداً ولا يستفيد منها إلا المضاربون، وبالتالي فان هدر الاحتياطات على دعم العملة او دعم الاستيراد لن يؤتي مردوده اذا لم يترافق مع الخطوات الإصلاحية المطلوبة، وفي مقدمها: قانون “الكابيتال كونترول” من اجل منع خروج الدولارات التي يتم ضخها في السوق، وقانون اعادة هيكلة القطاع المصرفي لكي تستعيد المصارف دورها في عملية انعاش الاقتصاد وتنشيط الاستثمار، وهذا لا يمكن ان يتم في ظل مصارف متعثرة منهكة، فاقدة الثقة والقدرة على العمل، او في ظل اقتصاد “الكاش” المسيطر على السوق.

حتى الآن، لا تبدو الصورة واضحة حيال الإجراءات العملية التي ستلجأ اليها الحكومة. فالانشغال الرسمي هذا الأسبوع وحتى الأسبوع المقبل، سيتركز على مشروع الموازنة، حيث ستعقد جلسة لمجلس الوزراء يوم الاربعاء قد تكون الأخيرة لانجاز المشروع. ولا يستبعد ان تلحظ مادة قانونية تجيز الاقتراض من المصرف المركزي. ذلك انه لم يعد وارداً لدى رئيس الحكومة ان يحيل مشروع قانون في هذا الشأن، كما انه لن يكون وارداً لدى المجلس ان يعمد 10 نواب الى تقديم اقتراح قانون، علماً ان المعلومات تفيد بأن رئيس المجلس سيوجه دعوة الى جلسة تشريعية الأسبوع المقبل وعلى جدول اعمالها مشروع قانون الصندوق السيادي، وربما مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، ولكن لن يكون هناك أي مشروع أو اقتراح يتعلق بتشريع الاقتراض.

هل هذا يعني ان البلاد مقبلة على ازمة رواتب وتمويل استيراد الادوية؟ حتماً لا تجيب مصادر رسمية، مستغربة السقف العالي الذي رفعه الحاكم بالإنابة مهدداً بالاقالة، وهو يدرك ان التهديد سينتهي بتأمين الدولارات من السوق، في تكرار محدث لتجربة سلامة المنبوذة.

 سابين عويس – النهار

Leave A Reply