برّي يطلق رسائل “نوعيّة”: إرادتنا بالحوار الوطني انتصرت

ابراهيم بيرم – النهار

الى حين لقائه بوفد نقابة المحررين أول من أمس وإطلاقه الرسائل “المدوّية”، كان خصوم رئيس مجلس النواب نبيه بري يستشعرون أنهم نجحوا منذ جلسة 14 أيار وما قبلها في تسجيل نقاط عدة في مرماه، إذ إنهم راحوا يضخمون ما اعتبروه قهراً لإرادته وليّاً لذراعه بزعم أنهم أحبطوا “مؤامرة” تعيين حاكم لمصرف لبنان أو التمديد للحاكم الحالي رياض سلامة الذي يتعيّن أن تنتهي ولايته بعد أقل من عشرين يوماً. وذهبوا الى حد الاعتقاد بأنهم إنما راكموا انتصاراً عليه وعلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يوشك أن يكون تكراراً للانتصار عليهما في معركة التوقيت الصيفي قبل أشهر التي عدّها البعض حينها “أم المعارك”.

وقبل واقعة التعيين التي ما زالت غارقة في الالتباس حتى الآن، كان فريق الخصوم أنفسهم يحتفلون على طريقتهم الخاصة بما اعتبروه وأداً للدعوة الى طاولة حوار وطني كجسر عبور إلزامي للخروج من حال الاستعصاء السياسي والرئاسي الفارضة نفسها منذ أكثر من تسعة أشهر، وهي الدعوة التي كان لبري قصب السبق في رفع لوائها عالياً بالتكافل والتضامن مع الطرف الثاني من الثنائي الشيعي “حزب الله” لدرجة أن ثمة من اعتبر هذه الدعوة صناعة شيعية محضة تجفل الآخرين منها.

لكن بعد ذلك اللقاء الذي قيل إن إعلام عين التينة هو من استدرج نقابة المحررين إليه وليس العكس، انقلب المشهد وتغيّرت الصورة.

فقد بدا الرئيس بري من خلال المواقف التي أطلقها والرسائل التي بعث بها وكأنه يستشرف معالم الطريق الى المرحلة المقبلة، إذ إنه حرص على الظهور بأنه استعاد الإمساك بزمام المبادرة خصوصاً حينما تحدث بثقة عن دنوّ ميعاد انعقاد طاولة الحوار الوطني الشاملة. واللافت أن بري قد رسم لضيوفه مشهداً تبدو فيه طاولة الحوار نصبت وصار انعقادها أمراً مفروغاً منه، وذلك وفق الأسس التي دعا إليها أي حوار وطني شامل لايستثني معنياً.

ولا ريب في أن ثمة من استعاد حيال ذلك تجربة أطلقها الرئيس بري نفسه في المرحلة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفرط عقد التحالف الرباعي بعدما استنفد البعض من التحالف غرضهم. حينها كما هو معلوم دخلت البلاد مرحلة استعصاء وانسداد أفق تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن مشهد اليوم. في ذلك الوقت نجح الرئيس بري في جذب أركان اللعبة السياسية الى طاولة حوار رفع قوائمها في المجلس النيابي نفسه لما له من رمزية.

والمعلوم أن بري نجح في جمع هؤلاء الأقطاب الذين كان معظمهم لا يعرف بعضهم بعضاً لأكثر من خمس جلسات قبل أن تطيح حرب تموز عام 2006 تلك التجربة الحوارية، ليتعاظم بعدها الشرخ الوطني ويزداد الانقسام حدة واحتداماً.

اللافت في “البشارة” التي كشف عنها بري ليس فقط أن الرجل يتحدث عن طاولة الحوار وكأنها أمر مقضيّ، بل ربطه بين ارتفاع الطاولة الحوارية وبين العودة الوشيكة للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الى بيروت، إذ تبادر بعدها للأذهان أن باريس تمنح البركة لتلك الطاولة ولانعقادها في العاصمة اللبنانية بعدما كثر الحديث أخيراً عن أن باريس تتجه لعقدها في أرضها تكراراً لتجربة سان كلو الحوارية. وأكثر من ذلك، بدا كأن باريس لا تسير في موكب الرافضين لطاولة الحوار.

ولا ريب في أن في عين التينة فسّرت أمر مباركة باريس لطاولة الحوار على أنها دلالة على أن باريس ما غادرت حدود المبادرة التي سبق أن أطلقتها باكراً ولم تبدّل فيها تبديلاً.

ويمضي هؤلاء الزوار في تفاؤلهم الى حد القول إن بري ما كان ليتحدث أمام ممثلي وسائل الإعلام بهذه الثقة بالمعلومة التي يوردها لو لم يكن بين يديه معطيات ووقائع تؤكد أن طاولة الحوار صارت أمراً مطلوباً تحقيقه من باريس ومن خماسية الدول المعروفة خصوصاً أن لودريان سيأتي الى بيروت الاثنين المقبل مبدئياً بعدما زار أكثر من عاصمة من عواصم الدول الخماسية.

فضلاً عن ذلك ما كان لبري أن يطلق تأكيداته تلك وهو الذي منذ زمن غير بعيد بدا كأنه يغسل يديه من الدعوة الى الحوار بناءً على اعتبارين اثنين:

الأول إقراره بأن منسوب الاعتراض على انعقاد الطاولة عالٍ جداً وهو الساعي الى حوار شامل.

والثاني أنه يعتبر نفسه وقد خرج عن موقع الراعي للحوار وهو الذي سارع الى ترشيح زعيم تيار المرده سليمان فرنجيه وتمسّك بهذا الترشيح. بل إن بري في مرحلة من المراحل أوحى أيضاً أنه عرض على البطريرك الراعي رعاية طاولة الحوار إن شاء ووجد مصلحة وطنية في ذلك.

أما الرسالة الثانية التي أطلقها وكانت مفاجئة للبعض فهي تحذيره لكل من تسوّل له نفسه المساس باتفاق الطائف أو الدعوة الى تغييره معتبراً أن مجرد التفكير في هذا الأمر ضرب من الجنون لكونه يفتح مصير البلاد على المجهول “ونحن من عشنا ومتنا لنشهد ولادة هذا الاتفاق”.

ولو لم يكن “حزب الله” هو البادئ بتقديم مرافعات على لسان أكثر من قيادي فيه وعلى نحو متعاقب تبرهن براءته من أي دعوة تطلق من هنا أو من هناك لتعديل اتفاق الطائف أو المساس بمضامينه فإنه كان بمقدور بعض المراقبين أن يدرجوا تحذير بري القاطع والحاد بأنه موجّه ضدّ الحزب بالذات خصوصاً أن ثمة من فسّر كلاماً ورد على لسان الأمين العام للحزب يوم لقائه بموفدي بكركي إليه في خانة التهديد بالدعوة الى تعديل الاتفاق لأن الشيعة لا يجدون أنفسهم حاضرين فيه.

لم يعد خافياً أن التخويف من رغبة مكتومة لدى الشيعية السياسية بتعديل اتفاق الطائف هو أمر مكرّر يُستدعى الى دائرة التداول والنقاش كلما دعت حاجة البعض ليمسي الأمر تهمة لهذه الشيعية وسيفاً مصلتاً عليها وأنها لهذا تعرقل وتعطل أي استحقاق كبير ليكون ذلك تذكيراً وجرس إنذار.

وبناءً على ذلك فإن كلام بري أخيراً كان بمثابة الرأي الحاسم في هذا النقاش فيما البعض يعتبره خطوة استباقية من عين التينة ليُسحب من خلالها الموضوع من التداول، علماً بأن أحداً لا يمكنه أن يمنع إلقاء الأضواء على هذا الموضوع كلما استدعت الضرورة، ولا أحد يظن أن الشيعية السياسية منزعجة من إثارة هذا الموضوع والطرق على جدرانه بين فينة وأخرى فهو بمثابة جرعة تذكيرية “بأن لنا حقاً مضاعاً ومهدوراً”.

Leave A Reply