تاريخ العملة اللبنانية بالوقائع والأرقام: مِن “كانت الليرة تحكي” إلى “صارت الليرة تبكي”!

شربل بكاسيني – النهار

يشهد اللبنانيون يوماً بعد يوم انهيار ملحمة الليرة. بدءاً من 31 كانون الأول 2019، اعتادوا تراجع قيمتها. يومذاك، استقرّ سعر الصرف في محالّ الصيرفة على 2150 ليرة للدولار الواحد. كانت الليرة قد حافظت على استقرارها حتى تاريخ إقرار حكومة حسان دياب عدم دفع فوائد دَين “اليوروبوند” في آذار. وعلى هذا النحو، استمرّ الانحدار الدراماتيكي لليرة وسط غياب الإصلاحات، حتى بلغ سعر الصرف في 31 كانون الأول 2020 ما يوازي 8325 ليرة في ما بات يُعرف بـ”السوق السوداء/الموازية”، و27400 ليرة في 31 كانون الأوّل 2021، بينما يلوح رقم قياسيّ جديد في أفق 2023 مع تخطّي سعر الصرف عتبة 65000 ليرة.

محطّات عدّة طبعت العام الماضي، فيما يغرق لبنان بانهيار اقتصاديّ صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن الماضي، مع خسارة الليرة نحو 95 في المئة من قيمتها مقابل الدولار.

تاريخ مختصر لليرة

وقت كانت الدولة العثمانية تُحتضر، جرى تداول العملة التركية والمصرية بحرّية في جميع أنحاء المنطقة التي كانت تُعرف باسم “بلاد الشام”. ومع تنامي تأثير فرنسا، كان حلول الفرنك الفرنسيّ لملء الفراغ الذي خلّفه “رجل أوروبا المريض” منطقياً، غير أنّ الفرنك الخارج لتوّه من الحرب العالمية الأولى كان واهناً بفعل الاضطرابات الاقتصادية خلال العشرينات من القرن الماضي. وبدلاً من جعل الفرنك عملة الانتداب، استحدثت فرنسا الليرة السورية (Livre Syrienne) في 31 آذار 1920 من خلال القرار الرقم 129، ورُبط سعر صرفها بالفرنك الفرنسي بحيث كانت قيمة الليرة تعادل 20 فرنكاً. تولّى “بنك سوريا”، وهو البديل الفرنسي للبنك العثماني، مهام الأخير ومُنح امتياز إصدار الليرة.

في غضون ذلك، أُنشئت دولة لبنان الكبير مطلع أيلول 1929. وفي 23 كانون الثاني 1924، وُقّع اتّفاق حوّل “بنك سوريا” إلى “بنك سوريا ولبنان الكبير”. وفي وقت لاحق، منح اتفاق عام 1924 البنك الجديد امتياز إصدار العملة في ظلّ الانتداب لمدة 15 عاماً. وقد بدأ لبنان عامذاك إصدار عملته المعدنية الخاصة. وتحوّلت الليرة السورية إلى “الليرة اللبنانية – السورية” ورُبط سعر صرفها بالفرنك على غرار سابقتها. وفي العام 1937، مُنح “بنك سوريا ولبنان الكبير” امتياز إصدار العملة لـ25 سنة أخرى حتى 1964، قبل أن يتحوّل بعد عامين إلى “بنك سوريا ولبنان”، “المؤسسة التي لها امتياز الإصدار وفروعها بموجب قرار المفوض السامي المؤرَّخ 23 كانون الثاني سنة 1937″، في 29 آذار 1939.

وجه البلد الحضاري

خلافاً للطوابع البريدية، لم تحمل أيّ فئة من الليرة اللبنانية وجه زعيم أو شخصية عامّة، بل على العكس، قامت على التسويق لمناظر طبيعية ومعالم أثرية وطنية، وعرضت نماذج من الحضارات التي تعاقبت على أرض لبنان، من التماثيل الفينيقية إلى قلعة عنجر، مروراً بأعمدة بعلبك، إلى جانب مغارة جعيتا، صخرة الحمام (الروشة)، خليج جونية والأرز.

وعلى رغم أن بعض الإصدارات المُبكرة تضمّنت صوراً للمسجد الكبير في دمشق ومواقع في سوريا، إلّا أنّها استُبدلت بحلول منتصف الخمسينات من القرن الماضي بمواقع لبنانية، مثل قصر بيت الدين والقلعة البحرية في صيدا والبقايا الرومانية في صور.

حملت الليرة اللبنانية كل مشاعر الحنين وأظهرت الوجه الحضاري لـ”باريس الشرق”. ولعلّ أصدق ما يُقال عن العملات هو أنّها تُظهر وجه البلد، تماماً كما فعلت الليرة التي فقدت – مع فقدان الشعور بالانتماء إلى وطن جامع – جماليتها الرمزية.

تأسيس مصرف لبنان

عام 1949، تحرّرت الليرة اللبنانية من الفرنك الفرنسي وتحوّلت “عملة عائمة” تُحدّد قيمتها بسوق العرض والطلب، قبل سقوطها في ميزان الدولار.

أُنشئ مصرف مركزي تحت اسم “مصرف لبنان” بقانون النقد والتسليف الصادر في الأول من آب 1963 بموجب المرسوم الرقم 13513 الذي قسّم “بنك سوريا ولبنان” إلى مصرفين، لكنّه بدأ العمل رسمياً في الأول من نيسان 1964. نصّت المادة 13 على اعتبار المصرف “شخصاُ معنوياً من القانون العام ويتمتّع بالاستقلال المالي، ويُعتبر تاجراً في علاقاته مع الغير”. أمّا المادة 15 فذكرت أنّ رأسمال “المصرف” يتكوّن من “مبلغ تخصّصه له الدولة، قيمته خمسة عشر مليون ليرة لبنانية”.

في غضون عامين من إنشاء “المصرف المركزي”، ارتفع عدد البنوك التجارية العاملة في لبنان إلى 96 مصرفاً. غير أنّ الازدهار في الأعمال المصرفية بُتر في عام 1966 مع فشل “بنك إنترا” الذي كان أكبر مصرف تجاري في لبنان، وهو ما دفع المشرّعين إلى التعامل مع الأزمة من خلال سنّ قوانين جديدة وتعديل قانون النقد والتسليف.

تحرّك سعر صرف الليرة اللبنانية منذ العام 1964 وحتى العام 1981 بين 3,22 ليرات و 3,92 ليرات للدولار الأميركي، حتى وصل في آذار 1981 إلى ما يقارب 4 ليرات للدولار الواحد، واستمرّ هذا التراجع حتى حزيران من العام 1982 مع الاجتياح الإسرائيلي يوم وصل سعر الدولار الواحد إلى 5 ليرات لبنانية. بعد أشهر قليلة عوّضت الليرة بعض خسائرها لترتفع نهاية العام 1982 إلى ما دون 5 ليرات للدولار الواحد، قبل أن تعاود تراجعها في حزيران 1984 أمام الدولار بقيمة 6 ليرات للدولار الواحد. انهارت الليرة. للمرة الأولى، شعر اللبنانيون بزوال النموذج اللبناني الرائد، ولم تعد ليرتهم “تحكي”. بات الدولار الواحد يشتري ألفين و382 ليرة في آب 1992 (ولم يجرِ التداول به نتيجة الرتب والرواتب والإجراءات الضريبية الجديدة…) بعدما بلغ سعر الصرف 87 ليرة في نهاية عام 1986.

قبل ذلك، وفي عام 1987، بلغ سعر صرف الليرة في عهد الرئيس أمين الجميّل نحو 550 ليرة للدولار الواحد، ارتفع عام 1991 إلى 880 ليرة وإلى نحو 1900 ليرة أواخر 1992 – قبل تشكيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري حكومته الأولى في تشرين الأول 1992 وتعيين رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان في أيار 1993 وتسلّمه منصبه في شهر آب، مع دولار يلامس 1950 ليرة.

عام 1993، ضبط الحاكم الجديد لمصرف لبنان سعر الصرف على 1507,5 ليرات للدولار الواحد ابتداءً من كانون الأول 1997، يوم كانت سياسة ربط الليرة بالدولار ضرورية لاستعادة الثقة بها. ظلّ الاستقرار رفيق العملة اللبنانية حتى تاريخ 17 تشرين الأول من العام 2019 وتبعاته.

أما وقد وصلت الليرة الى مستويات غير مسبوقة من الإنهيار، وبما أن مصرف لبنان لا يملك عصا سحرية تعيدها الى أيام “العز”، فإن عدم قيام الدولة بالإصلاحات المالية والهيكلية ينبئ بانهيار لا سقف ولا حدود له لليرة الوطنية.

Leave A Reply