مئة عام على صدور كتاب “النبي” لجبران: كتبني ولم أكتبه واستغرق حياتي

“النبي”

لا يزال كتاب “النبي” الصادر بالإنكليزية قبل مئة عام، 1923، ل#جبران خليل جبران (1883-1931) في سطوعه المتعدد. هو رائعته وذروة أعماله وصانع شهرته. ولكن ما قصة هذا الكتاب؟ وكيف ولدت فكرته في خيال جبران؟

وضع جبران بذوره الأولى وهو لم يزل على مقاعد الدراسة في مدرسة الحكمة في بيروت. لكنه أهمله بناء على نصيحة والدته. بعد خمس سنوات عاودته فكرة الكتاب لكنه وضعه جانبا، مستذكرا رأي والدته كاملة رحمه. تروي بربارة يونغ في كتابها “هذا الرجل من لبنان” (ترجمة هنري زغيب) أن جبران حمل كتاب “النبي” معه من بيروت إلى باريس فإلى بوسطن حيث قرأ لوالدته على سرير المرض ما كتبه عن المصطفى الشاعر. ولكن بالحكمة التي تعالج بها فتاها في طفولته وفي ثقتها بمواهبه، قالت له: “جيد عملك يا جبران، لكن وقته لم يحن بعد”. وهكذا كان. بعد عشر سنوات ترك النص العربي نهائيا ليحرره بالإنكليزية ويصدره في نيويورك، هو الذي كتب الى مي زيادة يقول: “فكرت بكتابته منذ ألف عام”.

لماذا أصاب الكتاب نجاحا؟ في رأي صديقه الأديب ميخائيل نعيمه ( 1889-1988) أن جانبا من نجاح الكتاب – الكتيب الغريب- هو في الاختيار الملهم للعنوان، “وهكذا بكلمة واحدة، رفع جبران الفنان قمة شعر جبران الشاعر الى مستوى النبوءة وحتى قبل أن يتفوه به”. جبران نفسه يجيب عن سؤال نعيمه كيف صمم “النبي” وكتبه، بالقول: “وهل أنا كتبته؟ كلا، بل هو كتبني. شغل هذا الكتاب كل حياتي. كنت أريد أن أتأكد من أن كل كلمة كانت حقا أفضل ما أستطيع”.

النسخة الاولى من الكتاب وصلت الى ماري هاسكل؟ تلقته بفرح غامر وكتبت إليه في تشرين الاول 1923: “الحبيب خليل، ها قد وصلني “النبي” اليوم… سيكون هذا الكتاب في المستقبل أحد رموز الأدب الإنكليزي. وفي ساعات الظلمة التي سنمر بها سنفتحه لنكتشف أنفسنا من جديد، ولنجد أيضا في نفوسنا السماء والأرض ثانية. إنه من بين ما خطه الإنسان أكثر الكتب إمتلاء بالمحبة”. تسأله ماري هاسكل عن معنى المطرة وأورفليس؟ فيجيب: “ان اسم المطرة فيه جذر من لفظ ميتراس الذي يعود الى ديانة قديمة غامضة. اما معنى مدينة اورفليس فإنه جذر من أورفيوس”.

ترجم الإشمندريت أنطونيوس بشير في العام 1934 الكتاب للمرة الأولى الى العربية عن الأصل الإنكليزي. وفي رأي سهيل بشروئي في كتابه “الأدب اللبناني بالإنكليزية” أن أي ترجمة لكتاب “النبي” لا يمكن أن تحل محل الأصل. ترجمه ايضا ميخائيل نعيمه، لكن الترجمة الفضلى في رأيي هي ترجمة يوسف الخال (دار النهار للنشر). وترجم في ما بعد لأكثر من خمسين لغة في العالم وبيع منه أكثر من تسعة ملايين نسخة. ومن خلال ردود جبران على ناشره كنوبف، نكتشف اهتمام جبران المفرط وتدخله في أدق التفاصيل المتعلقة بالكتاب وباقي المؤلفات. نجح الكتاب ولبث جبران ثلاث سنوات يفكر متهيبا في ما عساه ان يكتب بعد “النبي”، وكيف يحافظ على نجاحه او يضيف اليه.

لكن السؤال هل كان جبران في صدد ثلاثية في موضوع “النبي” لم يمهله القدر لإنجازها؟ والحال، استغرق تأليف الكتاب وقتا طويلا ومسودات كثيرة وتبدلا في الأسماء. فقد سماه جبران ذات مرحلة بـ”المواعظ”، ومرة “المصطفى المختار الشاعر”. يوضح المسألة ميخائيل نعيمه في كتابه “جبران” 1934 أن جبران كان بالفعل في صدد ثلاثية يكون الكتاب الثاني فيها “حديقة النبي” ويتناول علاقة الإنسان بالطبيعة. صدر هذا الكتاب بعد وفاة جبران وترجمه الى العربية ثروت عكاشه بعدما جمعته صديقته وصفيته بربارة يونغ واضافت اليه بعض الفقرات. تؤكد ماري هاسكل ان جبران اطلعها على الهيكل العظمي لكتابه “حديقة النبي”. اما الكتاب الثالث، “موت النبي”، فلم يكتبه قط. وتكمن فكرته في عودة النبي من جزيرته وتأتيه جماعات متنوعة فيتحدث اليها عن الهواء والغيوم والأمس والغد والنور والدخان والظلام وسقوط الثلج. ويلقى في السجن وعندما يطلق سراحه الى الساحة يرجم. يبقى السؤال : هل حاول جبران ان يعادل بين الشاعر والنبي او يمارس الإسقاط من صورته وذاته؟ لعله لا يخفي ذلك بل يكتب الى ماري هاسكل في تشرين الاول 1922: “الفارق بين النبي والشاعر هو ان النبي يعيش تعاليمه، فيما الشاعر لا يفعل ذلك. فالشاعر قد يكتب عن الحب بصورة رائعة، ولكنه قد لا يكون إنسانا محبا”.

حظي كتاب “النبي” وجبران في الغرب بالتقدير الكبير حتى ان الرئيس الأميركي ويلسون قال عنه “انه اعظم كتاب بعد الإنجيل”. لم تهتم السينما الأميركية بالكتاب ولا بسيرة جبران على المستوى الدرامي. تم إنتاج فيلم يحمل إسم “النبي” عام 2014 من سيناريو وإخراج جورج الترس وتمثيل ليام نيسون وسلمى حايك. وقدمت مقاطع منه في بعض المسارح والجامعات والكنائس.

بعد مئة عام لا يزال الكتاب يهمي كالتعزية في النفوس وكالرجاء في الأرواح ولا يزال يقرأ ويوسع نطاقه ويصل الى القارئ ببساطة وأمل. قال عنه الناقد الإيرلندي جورج راسل: “انه أحد أجمل أصوات الشرق في الغرب”. نفتحه اليوم ونقرأه حارا سخيا مثل ذهب النسيان وزبد الرجاء.

سليمان بختي – النهار

Leave A Reply