غريشيو… 800 عام على أول مغارة ميلاد

في مقدمة المعالم المميزة لزمن الكريسماس، تبدو الأشجار المزينة بالأضواء وشرائط الثلوج، ومن فوقها نجمة فضية متلألئة، حيث تشع أجواء البهجة والفرح.

غير أنه وبجانب شجرة الكريسماس التقليدية، يبدو هناك معلم آخر من معالم هذا الوقت المميز من كل عام، ويتمثل في مغارة أو مذود، ينم عن بيئة قروية بسيطة، حيث مشاهد لطفل مولود، ومن حوله أسرته، ورعاة أغنام، وبعض الحيوانات، فيما الإطار العام للمشهد يبدو وكأنه يجري في أوساط شرقية، لا علاقة لها بالغرب، سواء الأوروبي أو الأميركي.

ما قصة هذه المغارة الرمز؟ ومن هو المتصوف الإيطالي، الذي صنع أول مغارة قبل نحو 800 عام، وتحديداً في عام 1223 في قرية غريشيو في إيطاليا؟

ولد فرنسيس عام 1181 في مدينة أسيزي، والده بيترو دي بيرنار، ووالدته جوفانا والتي يطلق عليها بيانكا. كان والده تاجراً ثرياً مما ساعد الشاب أن يرتقي اجتماعياً ويشارك الرقص واللهو مع الأصدقاء والسمر بكل أنواعه.

غير أن مصير فرنسيس يتغير لاحقاً، عندما يعتنق مذهباً صوفياً، يجعله متجرداً عن العالم ومباهجه، ثم ينضم إليه بعض الشباب الإيطالي الذين يعجبون بنمط حياته الروحي، ولاحقاً سوف تعرف جماعته باسم “الفرنسيسكان”، المتميزين بأثوابهم البنية، ومن فوقها غطاء الرأس أو “الكابوتشو”، ثم الحبل الأبيض حول الوسط، وبه ثلاث عقد، تعبر عن الفقر الاختياري، والعفة عن الدنس والفواحش، والطاعة للمسؤولين الروحيين.

لم يكن فرنسيس معلماً فقط، بل كان شخصية كبيرة في العصور الوسطى، وحتى اليوم تتردد كلماته بين الشباب من كل الأمم، والأصول الاجتماعية، إذ إنه قد سعى لتبصير الناس بأحوالهم ليحررهم من أوهام الحياة ومطامعها.

كان فرنسيس شخصية غير مريحة لمعاصريه، لا سيما من رجالات الكنيسة في تلك الفترة، لأنه كان يضع نفسه في قلب المجتمع الإقطاعي كمعارض، وبتخليه عن متاع الدنيا ومباهجها، وقد أظهر أن الكنيسة يجب أن تتحرر من الفخامة والأبهة، وأن تصل إلى قلوب الناس مثل طائر الصباح لتمنح البهجة والمحبة للآخر.

شخوص المغرة أمام مجسم لجدار الفصل في فلسطين (أ.ب)

لقاء دمياط

وجد فرنسيس كشاب معارض لعصره، فقد تجرد من كل ما يملك، وفرض قوته وقدرته على الإقناع في وقت كان يحكمه البابوات والأباطرة، يحاول كل منهم أن يطغى على الآخر.

نمت دعوة فرنسيس في إيطاليا، ومن ثم امتدت إلى أوروبا، وفي عصر قلق ومضطرب، حيث عاصر ما عرف في الغرب باسم الحروب الصليبية، وهي التي أطلق عليها العرب، حروب الفرنجة.

في مدينة دمياط على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حط فرنسيس رحاله عام 1219. في ذلك الوقت كان جيش الفرنجة يحاصر دمياط.

بإلهام روحي، علم فرنسيس أن المعسكر الأوروبي يستعد للمعركة، فتألم ألماً شديداً وتوجه إلى رفيقه قائلاً “لقد علمت بالروح أنه إذا وقع الصدام اليوم، فستحل الهزيمة بجنود أوروبا، ولكني إذا قلت هذا فسوف يعتبرونني مجنوناً، وإذا التزمت الصمت فسوف يؤلمني ضميري… قل لي ماذا أفعل؟”.

فأجاب الرفيق “لا تلق بالاً إلى حكم الناس، كما أنها لن تكون المرة الأولى التي يعتبرونك فيها مجنوناً، فلترح ضميرك ولتخش الله أكثر من خشيتك الناس”.

يقص توما الشيلاني، الرجل الذي كتب تاريخ فرنسيس، أن هذا الشاب الإيطالي المتصوف كان يطوف في معسكر الفرنجة صائحاً “ليسوا المسلمين من يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة، إنما هي خطاياكم”، وقد راعت فرنسيس الموبقات المرتكبة في معسكراتهم، وبين صفوفهم.

ظل فرنسيس ولفترة ليست بالقليلة ينذر ويحذر من الهزيمة القاسية التي ستلحق بمعسكر الفرنجة، وهذا ما جرى بالفعل، فقد انهزم جنود أوروبا في 29 أغسطس (آب) من عام 1219، وكانت نتيجة المعركة نحو ستة آلاف رجل ما بين أسرى وموتى.

لوحة لفرنسيس الأسيزي أمام مغارة الميلاد (موقع بلدة غريشيو)

القديس والسلطان

كان الجيشان يعسكران بالقرب من بعضهما بعضاً، ولا يفصل بينهما إلا شريط من الأرض لا يمكن اجتيازه من دون التعرض إلى خطر الموت.

كان السلطان الكامل ابن الملك العادل الأيوبي قد أصدر مرسوماً صارماً يقضي بأن أي شخص يأتي برأس جندي من معسكر الأعداء فسوف يحصل في المقابل على عملة بيزنطية ذهبية.

لم يرهب فرنسيس التحذير ولا الوعيد، فقد صمم على مقابلة السلطان، ليبلغه رسالة السلام التي حملها، ورفضه الحرب التي أطلقت برداء الدين.

في الطريق تم القبض عليه هو وصديقه اللوميناتو، وقد تعرضا للتهديد بالقتل، وتم التعامل معهما بخشونة بالغة، لكن ذلك لم يفت في عضدهما.

سيطر على فرنسيس في وقت ما فكر الاستشهاد، وكان له أن يستشهد فعلاً بحسب رؤيته الإيمانية، لو قام بالهجوم على عقيدة مضيفه السلطان.

وجد فرنسيس في السلطان الكامل أخاً في الإنسانية، ولم يهمل ما في الإسلام من قيم روحية، تلتقي مع نظيرتها في بقية الأديان، ومن حسن الطالع أن السلطان الكامل كان قد تلقى تعليماً روحياً إسلامياً، على يد أحد كبار المتصوفين الإسلاميين المصريين، الشيخ الإمام أبوالحجاج الأقصري، ولهذا وجدت المودات بينهما طريقاً لنزع الكراهية والرغبة في الصراع.

كان فرنسيس وطوال ضيافته في دار السلطان يستيقظ مع الفجر على صوت الأذان، وقد تنبه لصلاته الشخصية، وفيها من المزامير “الزبور” ما يتشابه روحياً والدعوة لتنقية النفس من أدران العالم، ومن وزر خطايا الحروب والموت والدمار الذي حل بالمنطقة في ذلك الوقت.

في نهاية الفترة التي أمضاها فرنسيس في ضيافة السلطان، والتي دارت فيها أحاديث روحية خلاقة، ربطت بين الرجلين، قدم السلطان لفرنسيس ورفيقه كثيراً من الهدايا والأموال، غير أن الشاب الصوفي الإيطالي المتجرد رفض أن يكبل روحه بالأموال والذهب والفضة، وفيما كان يشكر السلطان مودعاً، قبل منه هدية تذكارية واحدة، وهو بوق أو نفير، درج لاحقاً على استخدامه في إيقاظ إخوانه الرهبان فجراً للصلاة.

مجموعة من رهبان الفرنسيسكان بأزيائهم المميزة (موقع بلدة غريشيو)

خبرة روحية

على أرض دمياط، التقى فرنسيس الإسلام لأول مرة في حياته، وعاش بين المسلمين كذلك خبرة لم يكن له أن يعيشها لو ظل في ربوع إيطاليا، عاش كرسول للمحبة وليس كعدو، فقد كان ديدنه نشر المحبة بين الشعوب.

كان المكسب الحقيقي الذي حصده فرنسيس من تلك الرحلة التي كانت كفيلة بالقضاء عليه، هو حصوله من السلطان على تصاريح تكفل له ولأتباعه لاحقاً، الذهاب إلى فلسطين، حيث كنيسة المهد في بيت لحم، مسقط رأس السيد المسيح، بحسب الإيمان والمعتقد المسيحي، الأمر الذي يعود بنا إلى حديث مغارة الكريسماس مرة جديدة.

حين زار فرنسيس موطئ قدم المسيح ومحل ميلاده، تمنى لو كان قادراً أن يحج مرة كل عام في مثل هذا الزمن، زمن الميلاد أو الكريسماس، غير أن الأمر وبحسابات ذلك الزمان، وطرق السفر وأخطاره، كان شبه مستحيل.

غير أنه وفي عام 1223، أي قبل نحو ثمانية قرون، أراد فرنسيس أن يتذكر الطفل المولود هناك وسط الرعاة الفقراء بحسب الإنجيل، وذلك لكي يعمق تجربته هو ورفاقه، لجهة الفقر الاختياري، والتخلي عن بهرج العالم الخداع.

كان هدف فرنسيس أن يعيش بشكل حسي المعاناة التي عاشها المولود الجديد، في ظروف ينقصها كل ما هو ضروري، وكيف أنه ولد في مذود حقير ممدداً على التبن بين حمار وثور.

يكتب الأب بيترو ميسا، بر مجلة “بورتسيونكلا”، في مدينة أسيزي بإيطاليا يقول “كان فرنسيس مدفوعاً بروحانية يمكن تسميتها (الواقعية المسيحية)، أي تلك النظرة التي تعطي الاحترام اللازم للجسد، والتي تتعارض مع من يبالغ بإعلاء شأن الروح على حساب الجسد، كتلك البدع التي كانت سائدة في ذلك العصر، لا سيما بدعة (الكاتاريين)، الذين كانوا يؤمنون بأن الروح ينتمي إلى عالم القداسة، أما الجسد فنصيبه في أجواء الدنس والرجاسة”.

ولكي يحقق فرنسيس رغبته طلب من رجل في قرية غريشيو أن يعيره مغارته مع الحمار والثور، وفي ليلة عيد الميلاد توافد سكان القرية إلى ذلك المكان بالشموع والمشاعل، وأقيمت هناك صلوات القداس، وألقى فرنسيس عظة العيد في تلك الليلة، وبدت المدينة وكأنها بيت لحم جديدة.

بعد سنوات قليلة تم بناء مصلى صغير في ذلك المكان، حيث رسمت مشاهد ميلادية معبرة عن ذلك الحدث الفريد، وفي وقت قصير انتشر تقليد عمل المغارة في كل بقاع القارة الأوروبية، ومنها إلى بقية قارات الأرض.

هل من دروس في حياة فرنسيس أبعد من مجرد الفن الخاص بالمغارة؟

المؤكد أنه كما أن المذود بات رمزاً مرتبطاً بأعياد الميلاد، فإن شخص فرنسيس أضحى علامة على أهمية الحوار بين أتباع الأديان، وقد عرف فرنسيس قبل 800 عام كيف يجمع بين الهوية والحوار بطريقة فريدة لا مثيل لها.

لاحقاً اهتم بابوات الفاتيكان بمدينة أسيزي، وجعلوها مزاراً وملتقى للقيادات الدينية من كل المذاهب والملل والنحل، وهو الأمر الذي بدأه البابا يوحنا بولس الثاني عام 1986، حين دعا للقاء صلاة مشتركة في تلك المدينة، كما أنها شهدت قبل نحو عامين توقيع البابا فرنسيس رسالته الشهيرة المعنونة “كلنا أخوة”.

وتبقى قصة المغارة على رمزيتها دافعاً للتعرف إلى واقعنا الإنساني، وماضينا، والتعلم من التجارب المشعة بنور الإنسان والإيمان، على رغم تعقيدات أوقاتنا الحاضرة.

فيما يبقى فرنسيس الأسيزي الذي عرف بدعوته إلى “صليبية المحبة” لا “صليبية الحروب”، رمزاً للمصالحة بين الهوية والحوار، وطريقاً للقاء الآخر بعيداً من الإقصاء والعزل والمحاصصة العرقية والطائفية، ونموذجاً إنثروبولوجياً للفكاك من براثن الدوغمائيات والهويات القاتلة.

اندبندنت

Leave A Reply