من مظفر النواب إلى أبي تمام: الشعر بين المأنوس العامي والمأنوس الفصيح

الكاتب والشاعر منصف الوهايبي – القدس العربي

«القدس عروس عروبتكم

فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟

وسحبتم كل خناجركم

وتنافختم شرفا

وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض…»

لعل قصيدة مظفر النواب هذه هي أظهر ما بقي أو سيبقى في الذاكرة الشعرية العامة من شعره، لأسباب مردها على ما أرجح إلى المعجم العامي الذي استخدمه فيها. وهو معجم مأنوس عند عامة الناس، على ما فيه من كلمات «نابية» من منظورهم الأخلاقي. وهذا موضوع خاض فيه القدماء، من منظور أدبي نقدي؛ وهو ما أحاول أن أفصل فيه القول، على أن أعود إلى مظفر في مقال خاص.

يقول أبو تمام مادحا:

لو كان كلفها عبيدٌ حاجةً // يوما لزنى شدقما وجديلا

فقد نص أبو العلاء المعري على اختلاف رواية البيت وأورد أربع روايات هي «زنى» وهي الأصل على ما يستخلص من كلامه، و«عنف» و«أنسي» و«رثى» وسوغها كلها. فهي عنده من المعاني الصحيحة رغم إشارته إلى أن «الناس» استضعفوا كلمة «زنى» لأنها عامية. ونقل ابن المستوفي الإربيلي رواية الصولي «لأنسي» لكن شرحه تركز في«زنى» وقد عدها من رديء الكلام وقبيح الاستعارات. ويبدو أن أحدا من هؤلاء لم يحفل برواية الصولي. وقال القاضي الجرجاني في «الوساطة: «وأظنه لو وجد لفظة أسقط من «زنى» وأقل مناسبة للمعنى لاستعملها».

وحمل الآمدي على البيت كله، وخالف الصولي في المقصود بـ«عبيد». فهو عند الصولي عبيد الراعي النمري الذي كان من أوصف الناس للإبل. وهو البيطار الذي ذكره الأعشى في شعره، عند الآمدي. قال في شرح البيت: «أي لو كلفها عبيد حاجة أي سيرا عليها لحاجة، لزنى شدقما وجديلا، وهما فحلان من فحول العرب النجيبة المذكورة، لما يرى من سرعتها ونجاتها. وهذا غاية ما يكون من سخف المعاني وركاكتها». وعلل حكمه باستعمال الشاعر لفظة «زنى» وهي عنده «من ألفاظ الصبيان والجهال» وقارن بين معنى ظاهر وآخر مضمر أراده الشاعر، لكنه لم يهتد للفظه. قال: «وإنما أراد لو سار عليها عبيد، هذا العالم بأمور الإبل في بعض حاجاته لصغر عنده أو لهان عليه أمر شدقم وجديل» فلما استعصى عليه اللفظ قال: «لزنى شدقما وجديلا». وأضاف الآمدي ساخرا: «أتراه (عبيد) كان يقول لهما: يا زانيين، أو يا ابني الزانية. إن هذه من حماقات الطائي وسخفه العجيب، مع ما في أبياته هذه من نقض المعنى الأول الذي ذكره في الأبيات كلها من الحث على القناعة والقعود عن الحركة والاضطراب». وهذا تمحل من الآمدي لا مسوغ له. ذلك أن الصورة يمكن أن تحمل على معنى آخر قد يكون الأقرب إلى مذهب الطائي، وهو المعنى الذي تفرد به ابن المستوفي، فقد عامل «زنى» معاملة «أزنى» وفسرها بالحمل على الزنى لا النسبة إليه كما فعل الآمدي. قال: « وكأنه (أبو تمام) أراد بـ«زنى» أي أن هذين الفحلين أو أحدهما زنى أم هذه الناقة، فجاءت بنتهما تشبههما».

إن هذه الشروح تثير من الأسئلة أكثر مما تجترح من الأجوبة. فما هي الحدود الفاصلة بين استعمال فصيح وآخر عامي في عربية القرنين الثاني والثالث للهجرة؟ بل أليس في هذا الاستعمال التمامي ما يؤكد أن الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطراد، وأنها تغير ما بنفسها توسيعا أو تقييدا أو تحويلا؟

وحاصل كلامهم أن «زنى» كلمة رديئة واستعارة قبيحة. ومن هنا غيرت بغيرها، مما يوافقها جرسا ويخالفها معنى. على أنه من اللافت حقا ألا يحفل أي منهم بشرح هذه الروايات اللاحقة وهذا التغيير الذي طال البيت، إلا ما جاء خاطفا في«ذكرى حبيب». فقد كان أبو العلاء أميل،على ما يبدو، إلى الأخذ برواية «رثى» وكأنه استضعف مثل غيره كلمة «زنى» لعاميتها. وقد لا يعدو التصحيف، في هذا السياق، أكثر من محاولة لـ»تأنيس» النص. وهو منحى ليس بالمستغرب عند القدامى الذين نزع أكثرهم إلى جعل «أنس النفوس» مضمار الشعر وغايته.على أنه من الأهمية بمكان، أن ندرك الفرق بين مأنوس «عامي» ومأنوس «فصيح» فمن هذا الجانب كان اعتراضهم على كلمة «زنى». والأنس عندهم إنما مرده إلى الطبع وإلى المعهود والمألوف في اللغة (الفصحى) وفي الشعر، وليس إلى المصنوع المستفاد من جهة النظر والروية، فالشعر مطبوع ما كان قرين الأنس أي «صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه ومتنزها عن الاختلال…» بعبارة الجاحظ.

إن التصحيف في هذا البيت، طريقة في الانتقال بالنص من مأنوس عامي إلى مأنوس فصيح. وهو من هذا الجانب، يجافي مكونا من مكونات الصناعة عند أبي تمام. ونعني به هذا المأنوس العامي الذي يأخذ به أبو تمام في مواضع غير قليلة من شعره، على الرغم من أن نسبة المعجم القديم عنده مرتفعة قياسا بمعاصريه. وهذا ما يعزز رأينا في أنه لا وجود للغة شعرية عند الطائي، وربما في الشعر عامة، وإنما سياق شعري. فلا غرابة ألا تتفاضل الكلمات عنده ولا تقاس بمقياس الشرافة أو الوضاعة.

غير أن الاقتراب من «الروسم» محفوف في الشعر بكثير من المزالق إذ يمكن أن يذهب بشعرية النص ويؤبده في المبذول والمكرور من المعاني. وكأن الشاعر ملزم بأن يقترب ليبتعد، وما لم يكن بعدا، لم يكن قربا. وعلى أساس من هذه القاعدة، يمكن أن ينتقل الشاعر من المشاع اللغوي إلى «المملوك» اللغوي، وأن ينقل «الروسم» أو المأنوس العامي إلى مستوى الظاهرة الكتابية الشعرية.

ويقول من قصيدة يمدح بها المعتصم بالله:

جليتَ والموتُ مُبْدٍ حُر صفحتهِ // وقد تَفرْعنَ في أقطاره الأجلُ

وقد اضطربت رواية هذا البيت، فهو يروى «في أوصاله» و«أفعاله» بدل «أقطاره». ونقل الصولي «تفرع» أي تفنن وفعل ما شاء فنا بعد فن. «ولم يرو» تفرعن «هربا منها» على ما يزعم ابن المستوفي. ذلك أن هذه الكلمة مما عيب على أبي تمام. فقد عدها الآمدي من ألفاظ العامة، وقال إنه معنى في غاية الركاكة والسخافة» وما زال الناس يعيبونه به، ويقولون: اشتق للأجل الذي هو مطل على كل النفوس فعلا من اسم فرعون، وقد أتى الأجل على نفس فرعون وعلى نفس كل فرعون كان في الدنيا». وإلى هذا ذهب الخفاجي. قال: «وعادتهم (العوام) أن يقولوا: تفرعن فلان إذا وصفوه بالجبروت». وتحرج أبو العلاء، على عادته في نقد الطائي، فذكر أنها» كلمة ليست بالعربية المحضة» لكنه تسقط لصاحبه المعاذير.. قال: «وذلك أنهم لما كانوا يسمون الجبابرة الفراعنة تشبيها بفرعون موسى، حملت الكلمة على ذلك فقيل: تفرعن أي صار كأنه من الفراعنة. واستعار الطائي ذلك للأجل».

يضعنا هذا البيت إزاء روايتين مختلفتين: رواية «الأصل» وهي «تفرعن» ورواية الصولي «تفرع». وهي مما يوائم الصورة التمامية صورة الموت وقد كشف وجهه وتفرع فيه الأجل، وأمكن الممدوح من نفسه فتجلى له تجلية البازي إذا رأى الصيد فهم بمساورته. والمعنى، من هذا الجانب، لا يختلف عميقا عما جاء في رواية الأصل فكلاهما ضرب من التصوير الملحمي الذائع في الكثير من مديح أبي تمام.. قال الخارزنجي: «يقول (أبو تمام) رب مشهد بهذه الصفة أشرقت فيه على أعدائك، والموت قد كشف وجهه وأتى الأجل بفعل الفراعنة». وسوغ الجوهري هذا الاشتقاق قال: «كل عات فرعون، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة أي دهاء ومكر».

ويصف فرسا:

ما مُقْربٌ يختال في أشطانه // ملآنَ من صلَفٍ به وتَلَهْوُقِ

ولم تضطرب رواية هذا البيت، وما نسبه بعضهم إلى أبي علي المرزوقي من أنه روى «تهوق» (والتهوق هو التحذلق) قطع فيه ابن المستوفي، وبين أنه لا يوجد في أي من كتب أبي علي. لكن أثارهم في هذا البيت الاستعمال العامي، فقد ذهب الآمدي إلى أنه أراد بقوله «من صلف» «الكبر والتيه» وهذا مذهب العامة في هذه اللفظة، أما العرب فتستخدم هذه اللفظة في سياق مختلف، فتقول: صلفت المرأة عند بعلها، إذا لم تحظ عنده، وصلف الرجل، إذا كانت زوجته تكرهه. وخلص الآمدي إلى أن أبا تمام ذم الفرس ولم يمدح.

وشاطره ابن المستوفي الرأي فلاحظ أن أبا تمام بنى معنى الصلف» على ما أرادته العامة وهو العجب والتيه. قال ابن المستوفي» وهذا لا يسوغ استعماله لكونه عاميا». ورأى في البيت نوعا من «التهجين « اللغوي، فقوله «وتلهوق» وهو لفظ عربي «إلا أنه مستبشع وهو موضوع في غير موضعه في بيته».

إن هذه الشروح تثير من الأسئلة أكثر مما تجترح من الأجوبة. فما هي الحدود الفاصلة بين استعمال فصيح وآخر عامي في عربية القرنين الثاني والثالث للهجرة؟ بل أليس في هذا الاستعمال التمامي ما يؤكد أن الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطراد، وأنها تغير ما بنفسها توسيعا أو تقييدا أو تحويلا؟

 

Follow Us: 

Leave A Reply