جنيف تواجه أزمة مزدوجة .. شح سيولة حاد في الأمم المتحدة وكوفيد – 19

“جنيف الدولية” ليست نهرا طويلا هادئا، فقد أصبحت تواجه اليوم أزمة مزدوجة، ناجمة عن كوفيد – 19، وأزمة السيولة الحادة في الأمم المتحدة، التي تعاني فجوة في الميزانية قدرها 5.1 مليار دولار تثقل كاهل المدينة، والجمع بين هاتين القوتين الطاردتين المركزيتين يشكل خطرا حقيقيا، لكن الأسوأ، حسب التقديرات، سيأتي عام 2022.

بدأ المقر الأوروبي للأمم المتحدة وعشرات من المنظمات الدولية وغير الحكومية التي تستضيفها جنيف تشعر بقسوة الآثار المالية لجائحة كوفيد – 19 والفجوة في مالية الأمم المتحدة، بسبب عدم انضباط نحو 50 دولة في تسديد مستحقاتها. تثقل كاهل مدينة بحيرة جنيف وتثير مخاوف حكومتها.

الرسالة المؤرخة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) تدق ناقوس الخطر، ومن المرجح أن تدفع أزمة السيولة التي تواجهها الأمم المتحدة، التي قد تصبح أزمة ميزانية حقيقية، المنظمة الدولية إلى نقل أجزاء من أعمالها في جنيف إلى دول أرخص من سويسرا.

وحتى الآن تأكد أنه سيتم نقل 23 وظيفة في فرع جنيف لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى إسطنبول ولاهاي، وسيتم إلغاء ست وظائف أخرى “للخدمات العامة”، وهذه الخطوة يمكن أن تؤثر في شبكة المنظمات غير الحكومية المستقرة في نهاية بحيرة جنيف، حيث بدأ بعضها بالفعل تقليص ملاك موظفيها.

وتخشى بريسكا شاوي، الأمينة التنفيذية لمجلس تنسيق شؤون الموظفين التابع للمقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف، وهي الموقع على الرسالة التي أرسلت إلى مارك لوكوك رئيس مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “اوشا”. وتخشى، شاوي، أن تؤدي هذه التدابير إلى “خفض كبير في حجم المقر الأوربي ومنعه من الاستفادة من التراكم الطويل من عمله في وسط أوروبا. والخوف من إعادة التوطين ليس جديدا، في 2019، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد خفضت 150 وظيفة في مقر جنيف لمصلحة المواقع الميدانية على الأرض.

كما يشعر مجلس التنسيق بقلق إزاء عقود عمل جديدة للأمم المتحدة، أطلق عليها بعض موظفي الأمم المتحدة هنا اسم عقود العمل “الأوبرانية”، نسبة إلى شركة “أوبر” لتأجير السيارات، حيث تتبع العقود الجديدة للمنظمة الدولية نظام “تأجير العمل”، بدلا من “التوظيف”، يأخذ بموجبه صاحب العمل أجرته بعد انتهاء المهمة المكلف بها، ثم يتم الاتصال به مرة أخرى عند الحاجة.

ويقف وراء استراتيجية التوظيف هذه، تقرير “مستقبل القوى العاملة في منظومة الأمم المتحدة”، الذي يدعو إلى مزيد من عقود العمل “المرنة”، ولا سيما للاستشاريين والعمال المؤقتين. وترى، شاوي، وجود خطورة تتعلق بانعدام الشعور بالأمان في العمل في الأمم المتحدة.

وخلال عام، وحتى قبل ظهور كوفيد – 19، اضطر مكتب الأمم المتحدة في جنيف بالفعل إلى خفض الإنفاق إلى 85 في المائة من الميزانية التي صوتت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة وتجميد جميع عمليات التوظيف، بخلاف “عقود العمل الأوبرانية”.

لكن الغيوم تتراكم على المنظمة متعددة الأطراف، فحتى 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، لم تدفع سوى 132 دولة من أصل 193 عضوا مستحقاتها المالية، ووفقا لمسؤول في المنظمة الدولية، فإن الأمم المتحدة تفتقد مبلغا مذهلا قدره 5.1 مليار دولار.

ولن ينال المقر الأوروبي للأمم المتحدة تعويضا عن هذه الفجوة، إذ يخشى أحد المراقبين المطلعين أن “التقشف في ميزانية الدول الأعضاء سيتم الشعور به بقسوة بدءا من 2022.

وحتى تجديد المقر الأوروبي، الذي يقدر بـ837 مليون فرنك “940 مليون دولار”، بدأت تثار حوله تساؤلات، على الرغم من أن الموافقة على التجديد تمت في نيويورك، إلا أن العجلة لن تدور وحدها كما ينبغي مع أزمة السيولة، ولا يزال الموضوع مطروحا في مفاوضات الميزانية في اللجنة الخامسة للجمعية العامة، التي من المتوقع أن تختتم قبل نهاية العام.

ويعمل في مبنى “وودرو ويلسون” الذي تشغله مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المطل على بحيرة جنيف 600 شخص، لكن المفوضية تعاني بقوة أزمة سيولة الأمم المتحدة، نتيجة لذلك، لم تستفد المفوضية من جميع الأموال التي توقعتها في ميزانيتي 2018 و2019 لأنها لم تأت كاملة، وفي 2020، الأمر أسوأ، إذ يتم عرض الواقع المالي شهرا بعد شهر.

وتقول مصادر الأمم المتحدة “إن الأمر يزداد صعوبة كبيرة للقيام بعملنا، دفع الرواتب مضمون فقط، لكن دون مساحة كبيرة للمناورة”. ومن المتوقع أن يوفر مكتب المفوض السامي الأموال عندما يغادر قصر ويلسون الذي يبلغ إيجاره السنوي مليون فرنك “1.12 مليون دولار” والمباني الأخرى “إيجارها ثلاثة ملايين دولار” للانتقال إلى المبنى الجديد في المقر الأوروبي بحلول 2024-2025، لكن خطط التقشف قد وضِعت بالفعل لعام 2021.

وفي منظمة الصحة العالمية، لا توجد أرقام رسمية عن ميزانيتها، لكن انسحاب الولايات المتحدة في تموز (يوليو) الماضي، الذي سيكون نافذا في الشهر ذاته 2021، فضلا عن الهيكل المالي للمنظمة الذي أكل كوفيد – 19 كثيرا منه، يثيران المخاوف. وتمول منظمة الصحة العالمية بما يقرب من 80 في المائة من تبرعات طوعية تقدمها الدول، و20 في المائة من الاشتراكات الإلزامية للدول الأعضاء، وهو ما يزيد من ضعفها خصوصا عندما تواجه أزمة مثل كوفيد – 19.

وخارج مجال الأمم المتحدة، التوقعات المالية ليست أكثر وردية، فكثير من المنظمات غير الحكومية في ورطة. وتشدد بياتريس فيراري، مديرة الشؤون الدولية في مقاطعة جنيف على أن أزمة السيولة في الأمم المتحدة تفرض حقائق أساسية على الوضع الاقتصادي في جنيف الدولية الواهن أصلا بسبب الوضع الاقتصادي العالمي وكوفيد – 19. وتقول “عدة منظمات غير حكومية خفضت أنشطتها أو موظفيها في الأشهر الأخيرة”.

لا يوجد إغلاق لمنظمات غير حكومية في هذه المرحلة، لكن بعضها قد يختفي في 2021، وقد يتباطأ نموها في جنيف بشكل حاد، بعد أن شهدت المدينة وجود 40 منظمة جديدة على أراضيها في الأعوام الأخيرة.

ومن المقرر أن يقوم اتحاد الإذاعة الأوروبية، وهو منظمة دولية، بخفض فرص العمل وتسريح موظفين فى أعقاب الوباء، كما أطلقت شركة يوروفيشن خطة ادخار تؤدي إلى خفض عدد قوتها العاملة بنسبة 20 في المائة.

وتكافح منظمات غير حكومية من أجل البقاء لكن منظمة “أطباء بلا حدود” استفادت من عام 2020، وهي في الجبهة، تعالج مرضى كوفيد – 19 على وجه الخصوص، حيث تضاعف عدد مانحيها من الأمول، ولا سيما من القطاع الخاص. وفي المقابل، يجب على اللجنة الدولية للصليب الأحمر توفير 25 مليون دولار، وستلغى 78 وظيفة في المقر، ويتم تقريب سن التقاعد إلى 56 عاما بدلا من 65.

وسجل عدد المؤتمرات الدولية في الوقت الحاضر انخفاضا “بمعدل ثلاثة آلاف مؤتمر دولي في الالعام”، وهو رقم يمثل نحو 80 مليون فرنك “89 مليون دولار” من العائد الاقتصادي للمدينة سنويا، ليس الأقل إيلاما.

وسيكون أحد التحديات الرئيسة التي تواجه جنيف الدولية هو إدارة عملية الانتقال بعد الوباء. ويقول لـ”الإقتصادية” يوفان كورباليجا، مدير “ديبلو فاونديشن”، “كي تصبح جنيف الدولية مركزا جديدا للدبلوماسية الدولية، يجب تطوير أدوات جديدة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات، ومنصات جديدة آمنة مفتوحة المصدر على الإنترنت.

ويضيف “ينبغي أن تنتقل جنيف من عملية الإصلاح “توفير البنية التحتية” إلى مركز للتفكير في مستقبل الحوكمة العالمية، إنها لا تفعل ما يكفي في الوقت الراهن”.

Leave A Reply