هل تخسر أوروبا الجولة الثانية من حربها على الوباء؟

تشير كل الدلائل والأرقام المتداولة منذ مطلع هذا الشهر إلى أن الموجة الوبائية في أوروبا تتجه لتجاوز سابقاتها من حيث عدد الإصابات وسرعة السريان واتساع دائرة الانتشار. وتزيد قفزة الإصابات من منسوب الضغط على معظم المنظومات الصحية، التي بدأ بعضها يطلق نداءات الاستغاثة لعدم قدرته على استقبال المزيد من الإصابات والحالات الحرجة. فهل تخسر أوروبا الجولة الثانية من حربها على «كورونا»؟

صحيح أن نسبة الوفيات في المرحلة الراهنة لا تقارن بما كانت عليه في الموجات السابقة، لكن ثمة مؤشرات بدأت تجعل الهلع يدب في أوصال الدوائر الصحية وتدفع الحكومات للعودة إلى فتح دفاتر حظر التجول والإقفال العام التي كانت ظنت أنها طوتها إلى غير رجعة. المستشفيات الألمانية التي كانت تستقبل المصابين الذين لم تكن المنظومات الصحية في البلدان المجاورة قادرة على استيعابهم ومعالجتهم بدأت ترسل هي المصابين إلى الخارج للعلاج، فيما حذر رئيس اللجنة العلمية التي تستند الحكومة إلى مشورتها لإدارة الأزمة من أن «الأيام المقبلة ستكون قاسية جداً».

نصف الإصابات الجديدة في بعض البلدان الأوروبية يتفشى بين الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر، فيما يزداد عدد المصابين الذين تلقوا الدورة الكاملة من اللقاحات، وفي بعض البلدان يتضاعف معدل انتشار الوباء كل أسبوع أو عشرة أيام ولا تجرؤ الأوساط العلمية على التنبؤ بمسار هذه الموجة أو بمواقيت بلوغها الذروة. وأمام هذا المشهد الذي لم تتردد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما وصفته بالكارثة، عادت خلية الأزمة الصحية في المفوضية الأوروبية إلى دورة الاجتماعات المتواصلة، فيما أعلن الناطق باسمها كريستيان ويغان عن «قرب صدور توصية جديدة حول التنقل داخل بلدان الاتحاد وتعديلات في صلاحية شهادات التلقيح المعترف بها في أوروبا».

ومع اتساع دائرة التشكيك بفاعلية اللقاحات التي أنفقت عليها الحكومات الأوروبية مبالغ طائلة وجندت لها كل طاقاتها الصحية واللوجيستية وحصرت بها كل رهاناتها للإسراع في النهوض والتعافي من تداعيات الجائحة، عادت المفوضية الأوروبية الجمعة لتشدد بأن السبيل لتجاوز الأزمة هو «التلقيح والتلقيح ثم التلقيح»، كما صرحت مفوضة الشؤون الصحية ستيلا كيرياكيديس. وقالت: «تكفي المقارنة بين المعدلات الراهنة للوفيات والحالات التي تعالج في المستشفى بأرقام العام الماضي قبل أن تبدأ حملات التلقيح، لندرك أن فاعلية اللقاحات ليست موضع شك على الإطلاق».

لكن تطمينات المفوضية لا تبدو كافية لتبديد الشكوك والتساؤلات في البلدان الأوروبية، التي على غرار بقية البلدان في العالم، لم تتمكن أي منها بعد من العودة الكاملة إلى دورة الحياة السابقة للجائحة، بما فيها البلدان التي بلغت مستويات عالية من التغطية اللقاحية. وإزاء هذا التدهور السريع في المشهد الوبائي قرر البرلمان الأوروبي، الجمعة، إدراج بند طارئ حول الموضوع على جدول أعماله ليوم الثلاثاء المقبل، ما يستدعي مثول المفوضية أمامه لطرح التدابير التي تعتزم اتخاذها لاحتواء الأزمة التي تهدد بالعودة إلى المربعات الأولى في خطط مكافحة الوباء. وتجدر الإشارة إلى أن البرلمان الذي كان قد عاد هذا الشهر إلى عقد اجتماعاته بالحضور المباشر للمرة الأولى منذ بداية الجائحة، يدرس الآن خيار العودة مجدداً إلى الاجتماعات الافتراضية.

وشدد الناطق بلسان المفوضية على أن «البيانات العلمية تؤكد فاعلية اللقاحات في منع الإصابات الخطرة بالفيروس والعلاج في المستشفى والوفيات، وأن هذه الفاعلية تستمر عالية حتى مستوى 80 في المائة، لكنها قد تتراجع بنسبة ضئيلة لدى المسنين أو الذين يعانون أمراضاً مزمنة». ويجدر التذكير أن المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض السارية والوقاية منها كان قد حذر في تقرير تحليل المخاطر مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي، من أن تخفيف تدابير الوقاية والقيود الاجتماعية في البلدان التي لم تبلغ نسبة تغطيتها اللقاحية 75 في المائة سيؤدي إلى ارتفاع في عدد الإصابات حتى أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) كما يحصل حالياً. ونبه المركز حينها أن الزيادة في الإصابات ستكون بين غير الملقحين أو الذين لم يتلقوا الدورة الكاملة منها.

لكن الهلع الذي يسود السلطات الأوروبية من احتمال الاضطرار للعودة إلى فرض الإقفال العام وشل الحركة الاقتصادية على أبواب أعياد رأس السنة، دفع بعدد من البلدان إلى اتخاذ تدابير صارمة لم يسبق أن لجأت إليها حتى في أحلك مراحل الجائحة.

الحكومة الألمانية فرضت التلقيح والجرعة الإضافية على أفراد الطواقم الصحية، ومقدمي الخدمات الأساسية وهي تدرس حزمة أخرى من القيود والتدابير. هولندا ألغت جميع الاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة، فيما فرضت بلجيكا العمل عن بعد أربعة أيام في الأسبوع، بينما تتجه النمسا نحو الإقفال العام بعد أن فرضت العزل التام على غير الملقحين.

في موازاة ذلك، حذرت بعض المصادر العلمية الأوروبية من مخاطر الإفراط في تشديد القيود والتدابير الصارمة إزاء التطورات الأخيرة للمشهد الوبائي، خصوصاً في البلدان التي بلغت تغطيتها اللقاحية مستويات عالية، ودعت إلى التركيز على الإسراع في توسيع دائرة التغطية اللقاحية وتعميم توزيع الجرعة الإضافية من اللقاح.

ومع تسارع ارتفاع معدلات سريان الوباء في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي، يبقى الاهتمام مشدوداً إلى تطورات المشهد الوبائي في ألمانيا، خصوصاً بعد التصريحات الأخيرة التي صدرت عن لوتار فيلير مدير معهد «روبرت كوخ»، بعد اضطرار أحد المستشفيات الكبرى بالقرب من ميونيخ إلى نقل عدد من المصابين لمعالجتهم في إيطاليا، حيث قال: «لم يسبق أن بلغنا هذا المستوى من القلق، والتوقعات قاتمة جداً في الأسابيع وربما الأشهر المقبلة. نحن في حالة طوارئ صحية عامة، ومن لا يرى ذلك يرتكب خطأً فادحاً». وكانت البيانات الأخيرة للمعهد قد أفادت بأن نسبة الوفيات بين الإصابات الجديدة بالفيروس بلغت 8 لكل ألف حالة.

Leave A Reply