غزة تحاصِر حصارها: نُحبّ الحياة غداً

أكثر من خمسة عشر عاماً مرّت على فرض الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة. سنواتٌ عجاف كانت كفيلة بدفع مستوى الحياة في القطاع إلى الدرَك الأسفل، حتى باتت هذه البقعة التي تُعدّ من أكثر المناطق كثافة سكّانية في العالم، أشبه بسجن كبير يضيق بأهله. كان المُراد من سياسات التجويع تلك تدفيع الغزّيين ثمن خيارهم السياسي في عام 2006، ووضعهم وجهاً لوجه المقاومة التي قرّروا، في أوضح «ممارسة ديموقراطية» بالمعايير الغربية، إيصال صوتها إلى المجلس التشريعي الفلسطيني. هكذا، سُدّت المنافذ على أكثر من مليونَي فلسطيني، مُنعت عنهم التحويلات المالية، وقُيّد دخول المواد الغذائية اللازمة للعيش إليهم، وجُفّفت مواردهم واحتياطاتهم، وحُظرت عليهم المواد الخام اللازمة لصناعاتهم، وقُوّضت بناهم التحتية ومؤسّساتهم كافّة. على رغم ذلك، لم يفلح المحاصِرون في سلخ المقاومة عن أهلها، مع أنهم نجحوا في إطلاق جولات توتير دورية تحت شعار «بدنا نعيش»، كان أبرزها عام 2014 عندما دُفعت حركة «حماس» إلى دائرة عنف تطلّبت معالجات طويلة لتداعياتها. بدت المقاومة، مذّاك، في وضع لا تُحسد عليه حقاً؛ إذ كان عليها الارتضاء بتفاهمات لا تُساوق طموحاتها، سعياً منها في سدّ أي فتحة يمكن أن يتسلّل منها «المصطادون» لإشعال الفتنة بينها وبين حاضنتها الشعبية. لكن ما بعد معركة «سيف القدس»، التي – للمفارقة – سَطّر المعجزاتِ فيها الشعبُ نفسه الذي ارتُكبت بحقّه هذه الجريمة المهولة المديدة، باتت المعادلة مختلفة تماماً. صحيح أن العدو لا يزال يحاول مساومة الغزّيين على لقمة عيشهم وأبسط حقوقهم الإنسانية، لكن ما كان يمكن القبول به سابقاً أضحى مستحيلاً هضمه اليوم. فالمقاومة أصبحت على درجة من القوة تُخوّلها هجْر معتقل «العطاءات الاقتصادية»، والالتفاف الشعبي حولها تجاوَز غزة إلى الضفة الغربية والقدس وحتى الداخل المحتلّ، فيما السلطة التي لا غَرْو في القول إنها كانت شريكاً في الحصار أمست في موقع ضعف يفرض عليها السعي لحماية وجودها أوّلاً، والعدوّ الذي أراد «إبقاء رأس الفلسطيني فوق الماء» غدا مجبَراً على رؤيته على سطح الأرض، يهدّد وينفّذ تهديداته ويُعلي سقف شروطه، بل ويبتدئ الحرب بنفسه.

خدعة «بدنا نعيش» تتعطّل: وُجهة الغضب… إسرائيل

في منتصف آذار 2014، قارب المشهد في قطاع غزة الانفجار، بعدما خرج الآلاف من المواطنين إلى الشوارع في تظاهرات رفعت مطالب معيشية، كتوفير الكهرباء، ومعالجة الغلاء المعيشي، وتأمين حقّ السفر والمواطنة. كان من المفهوم، بالنظر إلى طبيعة الشارع المؤطّر سياسياً، أن تُتّهم حركة «فتح» بدعم الحراك الذي أُطلق عليه «بدنا نعيش»، لكن ما لم يكن مُتوقّعاً هو أن تُواجَه التظاهرات بقسوة مديدة (على مدار خمسة أيام)، خلّفت نقمة شعبية على سلوك الأجهزة الأمنية، ومشاهد كثيرة لم يوفّر أعداء المقاومة فرصة الاستثمار فيها، بهدف توتير الشارع وتغذية حالة الصدام. وما ضاعف حالة النقمة، واستدعى لاحقاً معالجات اجتماعية امتدّت طويلاً، هو أن القمع لم يقتصر على الأشخاص الذين تولّوا مهمّة التحشيد فقط، بل شمل أيضاً صحافيين ومثقّفين وناشطين، اعتدت الأجهزة الأمنية بشكل عنيف عليهم.

في مراجعة لتلك الأحداث، يلفت أمني في غزة، تحدّثت إليه «الأخبار»، إلى أن «ما كان محرجاً هو أن المطالب التي خرج بها المتظاهرون مُحقّة، وهي بالضبط ما يطالب به حتى رجل الأمن»، مستدركاً بأن «الخصم السياسي للمقاومة، أي المخابرات في رام الله، ووفقاً للعشرات من الوثائق والمعلومات، لعبت دوراً مشبوهاً عبر ركوب موجة التظاهرات، ثمّ دعمها ومأسستها بشكل مباشر». ويستنتج المصدر «(أننا) كُنّا بحاجة إلى هذا التدخّل الجراحي، ليس لأن هذا ما نُتقنه فقط، بل لأن المعطيات التي كانت تؤسّس لتَمرّد الشارع وانتفاضته ضدّنا، مصدرها الضغط الذي صنعته حكومة رام الله عبر مسلسل العقوبات الاقتصادية وخصم أكثر من 30% من رواتب الموظفين وقطع رواتب الآلاف، والذي تزامن مع الحصار الإسرائيلي الذي اشتدّ كثيراً على القطاع». هل كان من الممكن أن تتّبعوا سلوكاً آخر في علاج الموقف؟، نسأل، فيجيب: «نحن حاولنا منذ البداية عدم اللجوء إلى العنف، لكن في اليوم التالي من التظاهرات، بدا أن هناك عدّة تكتّلات عائلية فتحاوية تتولّى مهمّة توجيه دفّة الحدث، فضلاً عن أن الحشد الذي تَحقّق في اليوم الأول تلاشى إلى حدّ كبير في اليوم الثاني، وكانت الحالة أشبه بشغب وليس أكثر».

تؤكّد المقاومة اليوم أن فكرة الصدام مع الشارع مرفوضة، وأنها لن تسمح بتكرارها لاحقاً

بالنسبة إلى الشارع، فإن التعاطي الأمني مع الحدث لم يكن مُوفّقاً ولا مقبولاً، الأمر الذي دفع مكاتب «الحاضنة الشعبية» التي كان يقودها يحيى السنوار (رئيس حركة «حماس» في غزة حالياً)، إلى إطلاق سلسلة معالجات عاجلة للحالات التي انتهكت فيها الأجهزة الأمنية حُرُمات المواطنين. وفي هذا الإطار، يقول مصدر في «الحاضنة الشعبية» لـ»الأخبار»: «كانت أحداث 2014 أكبر التحدّيات التي واجهتها المقاومة وحركة حماس، خصوصاً أن المقاومة كفكرة تنتهي بدون وجود حاضنة شعبية حقيقية لها، لذا كانت معالجة تبعات بدنا نعيش مُهمّة جدّاً». عقب تلك الأحداث، اتّسعت فكرة المواجهة مع الاحتلال، من الحروب العسكرية المباشرة، إلى حروب التجويع وتأليب الشارع ضدّ فكرة المقاومة وتكلفتها. ولذا، لم تضع «حماس» أيّ «فيتُوات» على خيارات تخفيف وطأة الحصار، إذ أضحت المطالبة بأن تدفع قطر، بموافقة إسرائيلية، ثمن الهدوء على الشريط الحدودي للقطاع، تتمّ بوضوح شديد، فيما لم تُخفِ «حماس» خريطة تحالفاتها مع أطراف كانت تربطها بهم علاقة عدائية، مِن مِثل النائب المفصول من حركة «فتح» محمد دحلان، الذي أُعطيت له مساحة واسعة للعمل التنظيمي في القطاع، في مقابل تقديم مساعدات عينية ونقدية لشريحة واسعة من السكّان.

اليوم، تؤكّد المقاومة أن فكرة الصدام مع الشارع مرفوضة، وأنها لن تسمح بتكرارها لاحقاً، خصوصاً مع اقتناعها بأن المسوّغات الأمنية التي ستنطلق منها مهمّة مواجهة التظاهرات لن تكون مقبولة شعبياً، لأن رواية الأمن مشروخة دائماً، بالنسبة إلى الشارع. هنا، يجزم مصدر «حمساوي» بأن «تبعات الحصار سترتدّ على مَن سبّبوها، وأن تشديده ستقابله انتفاضة شعبية، ولكن ليس في شوارع القطاع، بل على حدوده، في وجه العدو الإسرائيلي».

المصدر: الأخبار

Leave A Reply