ليل وأجراس ملوّنة

حسين ابراهيم

ها هو الليل يزرِبُ من فمي، شلالا بلا نجوم. من عينيَّ وأذنيَّ يزرِب.. من سُرَّتي.. من الشامة التي تتوسط خدِّيَ الأيسر.. يزرِب ويزرِب دون انقطاع.. يُدنِّس صفحتي البيضاء، يفضُّ غشاء بكارتها بهمجية سوداء؛ كمريضٍ بشري يتلذذ باستعراض فحولته أمامي.
ليلٌ عتَّقته المآسي وفتَّقته الدموع، لا ضوء في كبده، لا مرايا.. لا حكايا.. لا شيء سوى الصمت والرقودْ، كلماتي تشحُّ وتبرد كلما اشتدَّ عصفا بصفحتي.. كلماتي يلزمها وقودْ.. وأنا وقودي الجوع والتعبْ.. وأنا وقودي زيت بلا حطبْ.. ووقودي سيل من العتبْ.. وقودي.. أنا وقودي وطنٌ ما زال مبنَّجا بالوعودْ..
ليل.. كليالي الوطن الذبيح، ينزف مع كل ضحية، ويدلهِمُّ مع كل هتاف أو شعار.. يتلبَّس كلماتي ليعبِّر بصدق عن مأساة كل من يربض في الوطن.. ليل لا يتزيا بالنفاق ولا يتبرّج بالقوافي، لكن وبالرغم من ذلك، يكرهونه.. أكثرهم يكرهونه.. لأنهم يكرهون الحقيقة ويمقتون الوضوح.. لقد فُطِروا على حب الأقنعة والحفلات التنكرية، فُطِروا على السَّير وحَوْل أعناقهم أجراس لا تكف عن الرنين.. ترن كل دقيقة لتنبههم بأنهم ينتمون لطائفة أو يتبعون لحزب.. ترن وتجن إذا ما حاولوا التمرد أو الاعتراض.. تعلو عاليا لتبتلع أصواتهم.. رنينُها المتواصل حشيشةٌ تخدر عقولهم.. تحيلهم إلى ذئاب تمزق بعضها بعضا.. تحيلهم إلى خراف تثغو ثغاء مقرِفا، وتتبع رعاةً وجوههم وحدها التي تختلف، أما فسادهم فواحد أبدا… كيف لمواطن أن يكون ذئبا وخروفا في الوقت عينه؟! وهذه الأجراس الكثيرة.. هذه الأجراس الحقيرة.. من وضعها حول أعناقهم؟ أجراس تتباين في ألوانها فقط، منها الأصفر ومنها الأزرق، منها الأخضر ومنها البرتقالي… وهناك أجراس ملونة بجميع الألوان، يحسب من يرتديها أنه خرج عن القطيع واعتنق الحرية، لكنه فعليا.. قد انضم إلى قطيع آخر، قطيع لا يعرف من الحرية غير ألوان “قوس قزح”…
تتكاثر المزاريب في وجهي وجسدي.. والليل يتدفق منها شلالات بلا نجوم.. ينقضُّ بأظافره المعقوفة على مفرادتي العذارى، يغتصبها بهمجية سوداء، صفحتي تقاوم وتقاوم، تمجُّ السائل الأسود.. لكنها سرعان ما تستسلم.. ليلٌ مفرط في صدقه، عنيف بوضوحه، أسود بحقيقته.. لا حكايا تزيِّفه ولا مرايا تُمكْيجه.. لا شيء سوى الحقيقة.. الحقيقة القاسية.. لا شيء سوى الصمت.. سوى الرقود.. رقودٌ ما بعده رقود…

 

Leave A Reply