٦ شباط انتصار القرن.. ـ الأستاذ حسن الدر

لأنّنا في دولة التّناقضات، ومجتمع التّباينات، ولأنّنا بارعون في هدر الطّاقات، وتشويه الانتصارات، أغفلنا صفحات مجيدة من تاريخنا، وعزفنا عن كتابة سطور أحداث عظيمة، جدير بها أن تكتب بماء الذّهب!

ويكفي كلّ مواطن عربيّ وإسلاميّ، بل كلّ إنسان شريف في هذا العالم، أن يقرأ بنود اتّفاق السّابع عشر من أيّار عام ١٩٨٣، ليعرف حجم الصّفعة الّتي تلقّتها إسرائيل وحلفاؤها، ومن ورائهم الولايات المتّحدة الاميركيّة وأدواتها.

الاتّفاق الّذي تمّ التّوقيع عليه إثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان، واحتلال عاصمته بيروت عام ١٩٨٢، والّذي أسقطته الانتفاضة الشّعبيّة بقيادة حركة أمل في ٦ شباط ١٩٨٤.

ومن أخطر بنود الاتّفاق المشؤوم إقامة منطقة أمنيّة اسرائيليّة داخل الأراضي اللّبنانيّة، ووقف الدّعاية المعاديّة بين لبنان والكيان الغاصب، وتكوين مكاتب اتّصال لعقد اتّفاقيّات تجاريّة وأمنيّة مشتركة، بإشراف أميريكيّ مباشر.

أرادت إسرائيل من الاتّفاق الخروجَ من عزلتها في محيطها، وإدخال لبنان في العصر الاسرائيلي، وبالتّالي القضاء على صيغته النّقيضة لعنصريّة الكيان الصّهيوني، تمهيدًا لتمدّد هذا الاخطبوط في المنطقة، وفرض رؤيته، وتأمين أمنه ومصالحه، وتحقيق أطماعه الممتدّة من الفرات إلى النّيل، وضرب سوريا في خاصرتها اللّبنانيّة الرّخوة آنذاك.

صباح يوم الاثنين، في ٦ شباط ١٩٨٤ أشرقت شمس المقاومة، ومدّت أوّل خيوطها فوق منطقتنا، يومها شعر أمين الجميل بانفلات الشّارع من يده، فأعطى أوامره للجيش الفئوي بقصف الضّاحية الجنوبيّة لبيروت، فوقعت اشتباكات بين عناصر من حركة أمل وعناصر الجيش، أدّت إلى انسحاب اللواء السادس في الجيش من الشوارع، وعودته إلى الثّكنات رافضًا أوامر القيادة بالاستمرار في المعارك، وسيطرت حركة أمل على بيروت الغربيّة بسرعة قياسيّة، وتوالت أحداث دراماتيّكيّة، انطلقت معها الانتفاضة بقيادة رئيس حركة أمل نبيه برّي متحالفًا مع رئيس الحزب التّقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، مدعومين من الرئيس السّوري الرّاحل حافظ الأسد، الّذي أسمى اتفاق ١٧ أيّار باتّفاق الاذعان، وقال بأنّه لن يمر..

وبالفعل لم يمرّ، ولكن، ماذا لو مرّ؟!

لو مرّ لكنّا اليوم كعرب ٤٨، لغتنا عبريّة، وعملتنا عبريّة، وثقافتنا عبريّة..

لو مرّ لكان لبنان وطنًا بديلًا، غارقًا في صراعات لا تنتهي بين سكّان أصليين وسكّان مبعدين..

لو مرّ لكان اسم فلسطين ذكرى في قلوب جيل النكبة وجيل النكسة، وتنتهي الذّكرى بموت أصحابها..

لو مرّ لكان لبنان لبنانات موزّعة توزيعًا طائفيًّا، أسوة بالدّولة اليهوديّة، وتبريرًا لعنصريّتها..

لو مرّ اتّفاق العار في السابع عشر من أيّار، لما كانت مقاومة، ولا تراكمت انتصارات، ولا تشكّل محور منيع متماسك، ولا ارتضت اسرائيل بحدود بريّة وبحريّة تترجّى ترسيمها، بعدما كانت أطماعها مفتوحة إلى أبعد من حدود الضّعف في نفوس المتخاذلين.

في أجواء ذكرى انتفاضة ٦ شباط، انعقدت القمّة البرلمانيّة العربيّة الاستثنائيّة، العام الماضي، لاتّخاذ موقف واضح وحاسم لما سمّي بصفقة القرن، وكان نبيه برّي كعادته، محطّ أنظار وأسماع العرب والمسلمين، وبكلمات مختصرة، ونبرة حاسمة، ذكّرتنا بنبرة المتمرّد الأربعينيّ، المنتفض على صفقة القرن العشرين، يوم ثار وأسقطها..

بنفس النّبرة والثّقة والجرأة، مضافًا إليها فائض الحكمة والتّجربة، ذكّر بثابتتيّ المقاومة والوحدة، سبيلًا لاسقاط هذه الصّفقة، وكرّر اسم المقاومة ثلاثًا، لعلّ شيئًا من بقايا نخوة يتحرّك في ضمائر المتاجرين بالقضيّة الفلسطينيّة.

وبعد مسيرة معمّدة بالدّم والانتصار، نزداد قناعة بأنّ القوّة هي قوّة الرّوح والإرادة والموقف، وأنّ الوحدة والمقاومة هي سبيل الانتصار، وأنّ السّلاح، مهما كان وضيعًا، قادرٌ على إفشال المشاريع الاميركية والصّهيونيّة، وإن كانت مدعومة بأعتى أسلحة العالم، ومغطّاة بسياسات الحكومات العربيّة المهرولة نحو التّطبيع والسّلام!

نستعيد ذكرى انتفاضة ٦ شباط، وقبلها بيوم واحد ذكرى الاستشهادي حسن قصير، لنثبت لأجيالنا النّاشئة، بأنّ صفقة القرن، وموجة التّطبيع، والحصار الاقتصاديّ والمالي، ليس قضاءً وقدرًا، وأنّ قوّة الحقّ أقوى من حقّ القوّة، وأنّ فلسطين ستبقى عربيّة، وعاصمتها القدس الشّريف، وستبقى روح المقاومة خشبة الخلاص، وسفينة الكرامة، مهما تآمر المتآمرون..

Leave A Reply