الياس الرحباني بين وطأة “الأخوين”… وابتكار “الهوية”

مايا الحاج

 

ليس سهلاً أن تكون الأخ الأصغر- بفارق كبير- لعملاقين بحجم عاصي ومنصور الرحباني. النعمة قد تكون صعبة، ومنهكة أحياناً. أن تجد نفسك، منذ طفولتك، أمام تحدٍّ عظيم، هو إثبات الوجود. فمن عساه يُثبت “وجوده” في حضور هذين الأخوين؟

هذه المسؤولية الهائلة أدركها الياس الرحباني في سنّ مبكرة، وعرف أنّ النجاح وحده لن يكفي، بل التفوّق هو المطلوب. المقارنة بينه وبين أخويه كانت محسومة، وهي قطعاً ظالمة، لكنّ الياس، الشاب الشغوف بالموسيقى، لم يتوقّف عندها. فلم تتولّد لديه عقدة المنافسة الأخوية، التي يسميها فرويد “عقدة قايين”، وهي غالباً تنمو عند الطفل الأصغر في البيت تجاه الأخ الأكبر المتميّز. ولم يطرح نفسه كمنافسٍ مُحتمل، بل ظلّ لصيقاً بهما، عاشقاً لأعمالهما، ومعجباً بانجازاتهما. هو لم يتمكّن من أن يكون جزءاً من مشروع “الأخوين” الصارمين، لكنّه لم يكن خارجه تماماً.

رعاية من الأخوين

ورغم انشغال عاصي ومنصور بإنتاجهما الخاص، لم يكن الياس (توفي والده وهو في الخامسة) متروكاً أو مُهملاً، بل انتبه أخواه الى موهبته واستقدما له مدرساً فرنسياً يُعلّمه أصول الموسيقى، هو برتران روبيلارد، لتمتدّ رحلة التعلّم الى سنوات لاحقة درس خلالها مع مدرّس فرنسي آخر هو ميشال بورجو، ما سمح له بالتعرف الى الثقافة الموسيقية الغربية، قبل أن يُكمل تعليمه الموسيقيّ في الأكاديمية اللبنانية للموسيقى (عُرفت لاحقاً بالكونسرفتوار اللبناني). هكذا تعمّق الياس الرحباني بالموسيقى الأوروبية من جهة، والموسيقى العربية من جهة ثانية، ليصنع في ما بعد موسيقاه المتأرجحة بين الأصالة والتجديد.

لم ينتظر الياس الرحباني كثيراً حتى وجد هويته الفنية الخاصة، محقّقاً اسمه خارج فلك الأخوين. ففي التاسعة عشر، قدّم الإعلانات الموسيقية، وكان سبّاقاً في هذا المجال، فحقق نجاحاً استمرّ على مدار عقود، ومنها أغنيات مازالت ترافقنا الى اليوم. وفي العشرين من عمره، استدعته اذاعة الـ«بي. بي. سي» البريطانية في لبنان وتعاقدت معه على تلحين أغنيات وبرامج اذاعية، مقابل 3900 ليرة لبنانية، وهو أوّل أجر كبير في حياته. فقدّم موسيقى وصفت حينها بالشبابية، ولا تزال.

هويته الخاصة

لم تكن موسيقى الياس الرحباني تملك من “العضلات” والقوة ما لا يُضاهى، لكنها بدت شديدة الخصوصية في سلاستها، وحيويتها وحداثتها. ألحانه، كما مقطوعاته، تحمل روحاً لبنانية بملامح غربية، فكأنه أسّس في مكان ما الى ما نسميه ب”العولمة” الموسيقية. وهذا يعود دون شكّ الى دراسته الأكاديمية لأنواعٍ موسيقية متعددة، من الطرب والفولكلور الى الأوبرا والجاز والروك.

وبهذا، كان الياس الرحباني أوّل من أدخل الأغنية الأجنبية بأصوات لبنانية، من أهمها سامي كلارك. وكتب الياس ولحّن أغنيات بالفرنسية والإنكليزية والإيطالية، إضافة الى أغنيات عربية قدمتها أهم الأصوات اللبنانية. ومع أنّه لم يقدّم أعمالا كثيرة الى فيروز، لكنّ أغنياته القليلة بصوتها حصدت نجاحاً كبيراً ومنها: “حنا السكران”، “طير الوروار”، “سهر الليالي”، “ليل وأوضة منسية”… لكنّه قدّم عددا كبيراً من الأغنيات لصباح، مثل: “يا حبيب القلب حبيتك”، “هاشلي بربارة”، “هالي دبكة يا با أوف”، “وعدوني ونطروني “، “رقصني دخلك يا حبيبي”… كما قدّم لوديع الصافي عددا من أجمل أغنياته ومن أشهرها “يا قمر الدار”، “قتلوني عيوني السود”… كما غنّى له نصري شمس الدين وملحم بركات وماجدة الرومي وجوليا بطرس، وجورجيت صايغ، وباسكال صقر وغيرهم…

مقطوعات موسيقية

واكب الياس الرحباني الحقبة الذهبية في السينما المصرية، فقدّم الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام المهمة مثل “حبيبتي” (فاتن حمامة ومحمود ياسين)، “دمي ودموعي وابتسامتي” (نجلاء فتحي ونور الشريف)، و”أجمل أيام حياتي” (نجلاء فتحي وحسين فهمي)… كما قدّم معزوفات لأهمّ الأعمال الدرامية في لبنان مثل مسلسل “عازف الليل”، “ألو… حياتي”، “ديالا”، “لا تقولي وداعاً”…

واللافت أنّ هذه المقطوعات الموسيقية حققت نجاحاً كبيراً، وتمكنت من أن تتجاوز نسبة مبيعاتها الألبومات الغنائية، وهو من ضمن موسيقيين قلائل حققوا عبر مقطوعاتهم الموسيقية (بدون غناء) انتشاراً جماهيرياً واسعاً.

عن 83 عاماً، رحل اليوم الموسيقار الياس الرحباني، متأثراً بوباء كورونا، بعد مسيرة فنية طويلة قدّم خلالها ثلاث مسرحيات هي “سفرة الأحلام”، “وادي شمسين”، و”ايلا”، و2500 أغنية، ومئات الإعلانات والموسيقى التصويرية، وجوائز عربية وعالمية. لكنّه ظلّ حتى آخر حواراته عاتباً على هذا العالم الذي لا يُقدّر مبدعيه، ويستثمر أمواله في حروب مدمرة بدلا من الفنّ الذي يرقى بالإنسان، والأمم. وبابتسامته الدائمة على وجهه كان يقول: “بالموسيقى وحدها ننقذ مجتمعاتنا”.

المصدر:النهار العربي 

Leave A Reply