الإعراب: نحو أم إيقاع؟

منصف الوهايبي

 

لنظام العربية الفصحى سمات مميزة، بعضها شديد المحافظة. ومن الصعوبة بمكان أن نحيط بها كلها في هذا الحيز، فهذا يمكن أن يكون موضوع دراسة قائمة بذاتها، وإنما نقتصر منها على ما له صلة بالمقال.

من هذه السمات ظاهرة التصرف الإعرابي والنزوع إلى الأصوات الصامتة والحفاظ الشديد على الوزن. فقد احتفظت العربية بالتصرف الإعرابي، فيما فقدته جميع اللغات السامية، بشهادة العارفين بها من العلماء والمستشرقين. وهي ظاهرة أفاض فيها نحاة العربية القدامى وتبسطوا، وكثيرا ما استرسلوا إلى استطرادات وتخريجات شتى تتعلق بتقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى، أو تصحيح طريق تقدير الإعراب، كلما كان مخالفا لتفسير المعنى، وما إلى ذلك من تقديرات وبيان أوجه في الكلام جائزة، ترجع إلى لغة الضرائر والاتساع والحمل والتضمين والإجراء والجوار والاستغناء، فقد كانت هذه وغيرها، على تعقدها، مما يستوفي الغاية التعليمية ويثبت العربية قراءة وكتابة. ولم يكن القصد منها استواء الصنعة النحوية وحسب.

والإعراب لغة هو الإبانة والإيضاح والإظهار، واصطلاحا هو تغير أواخر الكلمات بحسب العوامل الداخلة عليها، أو الإبانة عن المعاني بالألفاظ. والضم والفتح والكسر والسكون حركات حسية في الأصل، ثم تحولت إلى مصطلحات نحوية. على أن من العلماء القدامى من تفرد برأي في الإعراب، وجيه في تقدير بعض المعاصرين مثل إبراهيم أنيس؛ وهذا العالم هو قطرب محمد بن المستنير (ت 206 هـ) وهو يرى أن الحركة الإعرابية لا تحدد المعنى، وحجته لذلك وهي سائغة مقبولة، أننا نجد في كلام العرب أسماء متفقة في الإعراب، مختلفة في المعاني، وأسماء مختلفة في الإعراب، متفقة في المعاني. فلِمَ الإعراب إذن؟ وجوابه أن الحركات إنما هي لوصل الكلمات بعضها ببعض، من جهة، واعتدال الكلام من جهة أخرى. وهذه إشارة ذكية منه، يمكن أن نستثمرها في فهم الإعراب من منظور الإيقاع أو الوزن، على ما نرجح.

وإن كان يحسن بنا أن ننبه إلى أن بعض المعاصرين مثل، تمام حسان كان قد أثبت أن هناك قرائن أخرى غير العلامة الإعرابية، يمكن أن تنهض بالتمييز بين المعاني؛ وهي قرائن عقلية ولغوية ومعنوية، وقرائن لفظية على رأسها الإعراب، ثم الرتبة والربط والمطابقة والتغيم أي الأداء. ولكنه شأنه شأن القدامى، لم يقل أكثر من ذلك، في ما يتعلق بالتنغيم؛ أو الإيقاع كما نفضل.

المصادرة التي نطمئن إليها أن الإعراب إيقاع قبل أن يكون نحوا. وهذه تستدعي مصادرة أخرى مفادها، أن العربية الفصحى أي المعربة، لغة عليا أو فنية أو»مقدسة»، بعبارة بعض المستشرقين؛ كانت قد ترفعت منذ أقدم العصور، عن لهجات الخطاب اليومي، أي أنها لغة كتابة أو لنقل هي لغة كتابية. وثمة حديث قلما تنبه إليه الباحثون، فقد جاء عن النبي أن «أول من كتب بالعربية إسماعيل»، وقال أبو عمر بن عبد البر (ت 463 هـ) إن هذه الرواية أصح من «أول من تكلم بالعربية إسماعيل». وفي رواية أخرى «أول مـن فـتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة». على أنني لست بصدد البحث في القداسة التي تضفيها هذه الأحاديث على الفصحى؛ وقد تنوعت صيغها، من ذلك: «وقيل للرسول: وما كلام الناس قبل ذلك؟ قال: العبرانية»، أو «أول من نطق بالعربية ونسي لسان أبيه اسماعيل وهو ابن الأربعة عشرة عاما، بعد أن ألهمه الله اللسان العربي المبين إلهاما».

إنما يعنيني تشديد الأندلسي ابن عبد البر على رواية: «أول من كتب بالعربية». والكتابة كما يبين المعاصرون مثل أنطوان ماييه، لا تملك ما يملكه المتكلمون من مناسبة وحركات ونغمة في الصوت من شأنها أن توضح الكلام الملفوظ؛ إذ لا بد لها من أن تستخدم في دقة قواعد النحو ومفردات اللغة استخداما محكما، حتى لا يعتريها الغموض؛ وتكون غير مفهومة. ومن ثمة فاللغة المكتوبة تنهض بتوضيح اليصغ النحوية وقيم المفردات». فلا غرابة أن تكون المحافظة على الاستعمالات القديمة والتخلف عن مجاراة اللغة المنطوقة من أظهر خصائص اللغة المكتوبة التي كثيرا ما تكون لغة خاصة، لا علاقة لها باللغة المنطوقة، كأن تكون لغة دينية أو لغة شعرية كما هو الشأن في العربية الفصحى لغة القرآن والشعر قبله، حتى أن بعض العلماء الأجانب يعدها «لغة فنية خالصة، تعلو بما لها من طبيعة مميزة على كل اللهجات. وقد تكون صورتها اختلفت من جهة إلى أخرى تبعا لاختلاف لهجات متكلميها، ولكن جهود علماء اللغة والنحو، الذين عملوا على تثبيت القاعدة واطرادها، استطاعت أن تطمس تلك الاختلافات طمسا تاما. والأرجح أن طمس الاختلافات يعزى إلى الكتابة، فهي تهمل الخصائص المحلية والإقليمية، إما لعدم دقتها أو قصدا إلى ذلك الإهمال.

ومن الثابت تاريخيا أن الإعراب لازم الفصحى منطوقة كانت أو مكتوبة، على نحو ما لازم التحرر من الإعراب العربية المولدة، ولكن بدون أن يكون هذا ولا ذاك الميسم الوحيد المميز لهذه أو لتلك. فلا الفصحى منحصرة في الإعراب ولا المولدة منحصرة في التحرر منه.

يقول هنري فليش: «إن لغة الشعر العربي بما توفر لها من ثروة في صيغها النحوية، ودقة في تعبيرها عن العلاقات التركيبية، إنما تعد أعلى قمة بلغها نمو اللغات السامية». وفي هذا ما يؤكد أن المحافظة على الإعراب سمة من سمات اللغة المكتوبة؛ وهي ترجع في العربية إلى الظروف التي حفّت بعصر التدوين، فقد كان من الطبيعي أن يصرف علماء اللغة والنحو جهودهم إلى تهذيب اللغة والمحافظة عليها من العجمة؛ إذ كان فهمهم لمصادر الدين يتوقف في جانب كبير منه، على سلامة اللغة. ومن ثمة كان حرصهم على تدوين الشعر القديم، من حرصهم على القرآن. ولعل هذه الآصرة التي انعقدت بين الشعر والدين، حتى عند الذين قالوا بمعزل هذا عن ذاك، أن تكون من أهم الأسباب في الانتصار للقديم والمحافظة عليه والدعوة إلى النسج على منواله، أو ما يمكن أن نسميه «تقديس الإعراب»؛ فأي إخلال به، ناهيك من إهماله جملة وتفصيلا، يفضي حتما إلى تقوض النص إيقاعا ووزنا؛ حتى إن احتفظ بمعانيه.

ومن الثابت تاريخيا أن الإعراب لازم الفصحى منطوقة كانت أو مكتوبة، على نحو ما لازم التحرر من الإعراب العربية المولدة، ولكن بدون أن يكون هذا ولا ذاك الميسم الوحيد المميز لهذه أو لتلك. فلا الفصحى منحصرة في الإعراب ولا المولدة منحصرة في التحرر منه. ولم يكن من النادر أن يجري الكلام معربا بدون أن يكون من جوهر القالب اللغوي الفصيح المتعارف. وقد أورد النحاة أمثلة منه، ولم يقولوا إنها من كلام العرب، بل إن سيبويه كثيرا ما يقول، إنْ هي إلا تقريب أو تمثيل، ولم تتكلم به العرب. وينبغي بأي حال أن لا تلتبس بشواهد لغوية ونحوية أخرى مثل الاتساع في وقوع المعاني على الأعيان والحمل على المعنى، والحمل على اللفظ، ووضع المفرد موضع التثنية أو موضع الجمع، وإيقاع الماضي موقع المستقبل، وإيقاع المستقبل موقع الماضي، وما إلى ذلك من أساليب التقديم والتأخير والحذف والزيادة وتبادل الصيغ وهيئات الأبنية وأحوال التراكيب. فهذه وغيرها أساليب تعهدتها الكتابة، وأكثرها منتزع من القرآن والشعر، وربما كانت الحركة الإعرابية في بعضها حاسمة في تحديد المعاني واختلافها، بدون سند من قرائن أخرى. وربما استعصى بعضها وكان تقدير الإعراب فيه مخالفا لتفسير المعنى. وقد دأب القدامى على رد هذا الصنف من لطائف العربية إلى البدو وصرفه إلى لهجة من لهجاتهم.

لا مراء إذن في أن العربية لغة متصرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، محافظة على نهايات الإعراب والتصرفات المختلفة، ولكن ينبغي أن لا يسوق ذلك إلى القول بحرية مطلقة في حركة المفردات داخل الجملة، أو أن تعد هذه الحرية دليلا على الإعراب. إنما الدليل، كلما تعلق الأمر بالقرآن أو بالشعر وهما معربان إعرابا كاملا، يكمن في أن هذين النصين صيغا بالعربية الفصحى، أو ما يسميه هارتمان «لغة الشعر المقدسة»، وليس بلهجات الخطاب العامية غير المعربة.

والأمر في تقديرنا لا يتعلق بحرية الكلمات في داخل الجملة على قدر ما يتعلق بغنى الحالات الإعرابية في لغة مثل الفصحى. وهو غنى يمكن أن يعفي المتكلم، في حدود معينة، من التزام قواعد الترتيب المألوف، رغم أن المسألة لا تخلو في العربية من إشكال مرده إلى أن الحدود بين ترتيب مألوف وآخر غير مألوف، ليست فاصلة قاطعة، لسبب لا يخفى وهو أن أكثر الشواهد النحوية شواهد شعرية أو قرآنية ترجع إلى قواعد ليست بالضرورة معيارية، بل هي أسلوبية. فلعلنا نكون في الصميم من أمر هذه الظاهرة ظاهرة التصرف الإعرابي، إذا أخذنا بالاعتبار أن الفصحى من حيث هي لغة مكتوبة ثابتة بطبيعتها أدت إلى تثبيت هذه الظاهرة، جاعلة منها عنصر محافظة؛ مثله مثل عناصر أخرى تتضافر كلها في صياغة السمات المميزة لنظام الفصحى العام.

المصدر: القدس العربي

Leave A Reply