الخوف مقبرة الأحياء

علي حمدان

امتهنت التعليم لفترة. ثمة كلمات ثلاث كان قد خطّها احد طلابي يوماً بالطبشور الملون أعلى اللوح، وفي نفسي الى الابد: “#الخوف مقبرة الأحياء”. 

حتى السابع عشر من تشرين الأول من العام الماضي كنّا نستيقظ وحسب… 

حتى السابع عشر من تشرين الأول كنا نبيت كل ليلة خُواة الوفاض بمنتهى الكياسة، الى أن تقدم الوزير المُقال محمد شقير، مشكوراً، بمقترح فرض ضريبة على تطبيق واتساب، فكانت الـ”هيلا هو” وما تلاها من هتاف الـ”سبع شطَلات” على حد قول السوريين، وكانت نهاية حقبة الـ”بوليتيكال كوركتنس” في التعبير عن الخذلان ورفض السائد، ولله الحمد، مما أثار امتعاض المستبد المستنير العابث بنا منذ الطائف وحتى الآن. يا للهول! ربما كان يجدر بنا ملازمة الكنبة في المنزل، بروب دو شومبر خمري مستورد وسيجار كوبي فاخر، والاكتفاء بمشاهدة الأحداث تتوالى منذ ذلك الحين عبر الشاشة بصمت مهذب باسم… 

استهدف تفجير ارهابي أحد مساجد الكويت عام 2015، فحضر أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الى مكان التفجير على الفور رغم المخاطر الأمنية، وبكى عبارته الشهيرة يومها رداً على أحد الأمنيين الذي حاول نهيه عن التوغل بين الركام: “هذولا عيالي”. هز انفجار مرفأ بيروت جزيرة قبرص فحضر أمراء الطوائف جميعاً الى قصر الصنوبر، صاغرين، فاستذكرت خطاب الأمين العام لـ”حزب الله”، حين نعت سلوك المتظاهرين الذين علقوا مشانق هؤلاء في ساحة الشهداء بـ”الانحطاط الأخلاقي”، وضحكت. رصدت فرقة البحث والإنقاذ التشيلية نبضاً لناجٍ محتمل تحت الأنقاض بعد مرور شهر على لغز الأمونيوم، فاسترجعت كلمة رئيس المجلس النيابي في ذكرى التحرير الأخيرة في أيار والتي ذيلها بالتحذير من “أن امبراطورية كالاتحاد السوفياتي قد أتى بها رغيف وذهب بها رغيف!”، فضحكت أكثر. مُنعت وسيلة اعلامية من تغطية مجريات استشارات التكليف في القصر الجمهوري لأنها “لا تقيم وزناً واحتراماً لرئيس الدولة” بحسب بيان القصر الجمهوري، فتكدّرت. نعم تكدّرت وتبددت ضحكتي. إذ لم يقم أحد وزناً ولا احتراماً لنا نحن الشعب يوماً، ورغم ذلك صمتنا، أما أن يطال الاستصغار سيد قصر الشعب شخصياً! هذا ما لا يمكن السكوت عنه ابداً! يا للوعة! كدت ابتلع لساني من هول الفاجعة! 

هناك من يصنف الشتم خدشاً للآداب العامة إذاً، ويرى في شتم القاعدة لرأس الهرم سلوكاً غريباً عن مجتمعنا، باعتبار أنّ اللبناني مفطور على دفء اللسان، لا يشتم البتة – لا لفظاً ولا بالوسطى ولا حتى بالزمُّور! أما ما استولد هذا الشتم من مهانة واحباط متراكمين في نفوس قاذفيه، فيترك النظر فيه الى “المكان والزمان المناسبين”. وهناك في المقابل من يمارس الشتم كواجب وطني أمام سلطة صادرت معنى الانتخاب كوسيلة محاسبة ورسبت في البيئة والكهرباء والصحة والتربية والأمن والاقتصاد وغيرها، والاخلاق، كما يقول ماركس، ليست إلا خداعاً أريستوقراطياً يتيح للأوليغارشية الحاكمة اختلاساً أسهل للسلطة والمال وسائر المغانم، وهو التوصيف الذي يستحضرني كلما امتعض احدهم من سُباب المنتفضين لرموز السلطوية الفاجرة والفاشلة. 

يقول الباحث والدكتور مصطفى حجازي أن الإنسان في هذه البقعة من العالم إنسان مهدور، والشتامين هم الأكثر صدقاً في التعبير، هكذا يؤطّرهم النفسانيون، وهذا ما تشي به وجوههم، والوجوه أصدق النصوص. الشتامون يستشعرون السيرك السياسي الذي نعيشه ولا يتظاهرون بأن كل شيء على ما يرام، وبالإضافة الى النصوص القانونية الدولية التي تكفل حق شتم السلطات وتضعه في إطار التعبير الحر عن الرأي وانتقاد العاملين في الشأن العام، فإنّ التسامح معه في كثير من الديموقراطيات يندرج في كثير من الاحيان تحت خانة السياسات العامة الاحتوائية، بحيث تنتهج بعض الحكومات “رحابة الصدر” لنجاعتها في تنفيس غضب الجماهير المتمردة وترويض ردود افعالها العنفية. أما هنا، فغفاة الحياة لا يرون في السباب إلا كسراً للَّياقة الاجتماعية وابويتهم الرثة والموروث الذي كرّسهم “قادة” أزليين، فيفعّلون متى شاؤوا، وبكل صفاقة، خدمات التأنيب والعقاب الفورية سواء عبر التعنيف المؤسساتي، الخدوم عادةً، او التعنيف الميليشياوي العضوي لـ “العناصر غير المنضبطة” المستعان بها منذ أيام “البلطجي” الأول وهو العنصر في دورية الأمن العصملي حامل البَلطة الهائم بطشاً، والذي تعبر به الأحزاب اللبنانية “القوية” عن منتهى الضعف، ليس إلا.

في رواية “خريف البطريرك” لغبريال ماركيز، رفضت الكنيسة طلب الطاغية تطويب والدته المتوفاة، فأصدر قراراً بطرد الاكليروس خارج البلاد وأعلن أمه قديسة الوطن وشفيعته الأولى بقرار رئاسي! لا قعر لوضاعة الطغاة، هذه حقيقة، ولا لصمت الضحية، وهذا جرح. لقد عمد الانسان قديماً قبل ابتكار المزارع المسيجة الى بتر أنوف الخنازير التي يربيها، ليصبح احتكاك أنوفها بالأرض كلما ارادت شم طريقها نحو مراعٍ بعيدة مؤلماً، فتذعن للبقاء قربه وترضى بما يقدمه لها مهما كان مجحفاً.

حتى السابع عشر من تشرين الاول، كنا شعباً مبتور الأنف. 

منتهى بيروت العودة الى الحياة، ومنتهاكم مصير ودائعنا، والأيام حبلى.

المصدر: النهار

Leave A Reply