كوس كوستماير، غنّى للحريّة في وشوشةٍ روحيّة لمحمود درويش

يلهث الشاعرُ وراء بصيصٍ من نورٍ ليقارع به مواطن الظلام التي تعترض سبيله، متلهّفاً لبلوغ تخوم التجلّي للوحي الذي ينهض بكيانه، ويحرّضه على البوح بما يعتريه من مضضٍ أو ألم، ويسردُ باختزال العمليّة الحسابيّة خياله الخصب، ويخضّبه بما يلحّ عليه من خيالٍ يحلّق به نحو السرمديّة الأزليّة للتاريخ الإنساني.

وقد يتيح المشهدُ الخارجي الذي يتراءى للشاعر على تكوين مشاعره وتكثيف مواهبه، حتّى ينقلَ كلّ ما يثقل كاهله ويرصدَ جهوزيّة الموقف الذي يتعرّض له كلّ انسان. هذا الاحتواء الكلّي للمصير يدلّل إلى حنينه المكثّف والمكتّف بين الخيال والواقع، إذ انّه يريد أن يغيّر الواقع ولكنّ الخيال رغم تيسّره فهو عسير التطبيق، لذا، يلجأ لمخاطبة النفوس المرهقة والمثخنة بالجراح علّها تستيقظ من سبات الاستسلام.

وهذا ما ينطبق على الكاتب الأميركي كوس كوستماير الذي لم يتنّحَ يوماً عن معانقة وطنه بشغف المحبّين، العائدين من معترك النضال النفسي. ففي قصائده الممنهجة على الأسلوب المسرحي المباشر، يسنّ كلماته مثل الوهج الذي يبرق في عين الظلمة، فيقول مثلاً في قصيدة «سؤال: «خوفّ في المرآة، بقايا قشّ على الأرض، نيرانٌ في الليل ومحنةٌ على الأرض، وصلنا إلى النهاية، حيث لا أصوات للموتى، النهرٌ راكدٌ ومليءٌ بالدم والأنقاض، هل كانت هذه آخر قشّة رأيتها في الريح؟».

وفي قصيدة نثرية تحمل الكثير من الميتافيزيقيا السادرة في انطولوجيا الحريّة وتشعّباتها المتنمّرة على واقعها، بعنوان «زيارة مسائية مع محمود درويش ومارثا» يقول: «فيما كنتُ أقرأُ أشعارَ محمود درويش غفوتُ وحلمتُ بهضاب فلسطين البعيدة: كم أزهرت على نحو ساحرٍ في الكلمات التي تركها خلفه! حين استيقظتُ شاهدتُ زوجتي في حديقة المنزل تقطف حبقاً ونعناعاً ووروداً برّية لصديقٍ. كان الضوءُ الساقط على وجهها في ذلك الصيف برهاناً كافياً لي أنّ كل الهندسة الرحبة والسريعة للزمان والمكان كلمةٌ أخرى للحب. ماتَ محمود درويش في المنفى. يعيشُ الآن إلى الأبد في مكانٍ المطرُ فيه نادرٌ واللغةُ عريقةٌ والفهود الذين يركبون ريح إنجازاته سيباركون النمر والحمل. يعيشُ محمود درويش إلى الأبد في أرض العسل والملح والحجر. يعيشُ في الماء والعمل والخوف. يعيشُ إلى الأبد في الضوء المتغيّر الذي قادَ زوجتي عبْر الحديقة وهي تحمل غيوماً من الأزهار بين يديها. خيّم الليلُ بسرعة وفجأة توحّدتْ جميع ألوان السماء (النبيذي الذي بلون الدم، الأبيض الفضي، النحاسي والأسود البرّاق) كي تضع الظلام على النار.السماوات العالية شعّتْ فوقنا. توهّجت كبساتين مشتعلةٍ في هضاب فلسطين، كبيوتٍ مقصوفةٍ وفارغةٍ في أرض إبراهيم».

نجدُ في هذه القصيدة روح السرد التي تكتنف معاني الكلمات، وتسبّح بمجد القصيدة التي اكتنزت ملامح أوراق محمود درويش، وطبعها ببصمة روحه الوطنيّة، وتغنّى بها كوستماير وهو يشبّه الحديقة التي تُعتبَرُ مملكة زوجته مارثا بجنّة محمود درويش وهي فلسطين التي كلّفه حبّه لها غالياً وتشرّد في المنفى يتلوّن طيفه مع الغسق بألواح الكلمات العالقة بين الأرض والسماء، ولكنّه ترك وصيّته في كفّ القصيدة، التي تهدّ جبروتاً وتهزم عدوّاً وتحرّر أوطاناً. فيدهشه هذا البوح المعتّق بأنفاس الشوق ودوالي الترحّل الدائم في شعر درويش، حتّى يتلمّس أثره في حديقته وشذى الحبق والنعناع.

كوس كوستماير، غنّى للحب وأنشد للعطاء، ودعا للثورة على كلّ ما يعنّف الانسانيّة، وانتقد الحرب وسعى للسلم وهو يضطجع على وسائد التوق اللامرئي للسكينة التي يفتقدها العالم المشغول بالمناورات والفتن، فهو كالطير الذي يجذبه إليه القمح ولكنّه لا يقدر أن يصل إليه بعد أن صُدّت بوجهه المنافذ، فتشرّد في أرض الله الواسعة لا يعرف له وطناً ولا يقرّ بقانونٍ يطبّق عليه سلطته، لأنّ الحريّة بالنسبة إليه لا تحدّها الأعراف ولا تتلفها العقول السلبيّة، لأنّها تطارد ظلّها بنفسها، ولا تضلّ عنه قيد أنملة.

نسرين بلوط – الجمهورية

Leave A Reply