السبت, ديسمبر 7
Banner

القطاع الطبي في لبنان بين الإنعاش والانتعاش

من بداية الأزمة في لبنان هاجر الأطباء والممرضون بالآلاف، متأثرين بتداعياتها على الوضع المالي والمعيشي في البلاد، وإذا كان بعضهم تمسك بأرض الوطن متخذاً قرار البقاء ودعم القطاع الصحي والمواطن، أتى انفجار مرفأ بيروت في 2020 ليغير مجرى الأمور، ويحفز هؤلاء على اتخاذ القرار النهائي بالمغادرة لوجهات عدة، سواء أوروبا أو الولايات المتحدة أو الخليج.

وارتفع عدد الأطباء الذي هاجروا إلى أكثر من 3500 طبيب من مختلف الاختصاصات، إضافة إلى حوالى 3 آلاف ممرض وممرضة هاجروا تباعاً في السنوات الأخيرة، لكن بعد تسجيل نقص مقلق في عديد من الاختصاصات، يبدو أن القطاع الطبي يشهد اليوم هجرة معاكسة للأطباء مع عودة قسم منهم.

وتشير أرقام نقابة الأطباء إلى أن ثلث الأطباء الذي غادروا البلاد في السنوات الماضية، عادوا للبنان أخيراً، واللافت أيضاً أن مراكز طبية ومستشفيات حكومية وخاصة تعثرت في السنوات الأخيرة، ووصل بعضها إلى حد إقفال أقسام كاملة وطوابق أو إلى الإقفال التام، خصوصاً في المناطق التي تقع خارج المدن الرئيسة، لكن يبدو أن الأمور تتجه أيضاً إلى الحلحلة في هذا المجال، إذ بدأت المستشفيات في لبنان تعمل على الحد من تداعيات الأزمة التي طاولتها تفادياً للوصول إلى مرحلة الإقفال، وفي الوقت نفسه ها نحن نشهد على افتتاح مراكز طبية جديدة لتؤكد انتعاش القطاع الطبي بعد كل ما أحاط به من هواجس منذ بداية الأزمة.

الدمج في مواجهة الإقفال

في مواجهة شبح الإقفال لجأت المستشفيات في لبنان إلى الدمج لتفادي الإقفال الذي كانت تقترب منه أكثر فـأكثر في الفترة الأخيرة، فبعد أن دق مراراً ناقوس الخطر مع تحذيرات من احتمال بلوغ مستشفيات عديدة مرحلة الإقفال بسبب الأزمة المالية، وتراجع أعداد المرضى إلى النصف بسبب الوضع المعيشي، وارتفاع تكاليف المصاريف التشغيلية، ونقص الكوادر البشرية لديها، أتى الدمج كأفضل الحلول الممكنة في مواجهة خطر الإقفال.

وعملت المستشفيات الجامعية الكبرى إلى دمج مستشفيات متعثرة عديدة، فأصبح مستشفى “كسروان” تحت إدارة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وانضمت أيضاً مستشفيات “سان شارل” و”القرطباوي” و”تل شيحا” و”سيدة السلام” إلى مستشفى “أوتيل ديو دو فرانس”، كما انضم مستشفى “البرجي” في الكورة في شمال لبنان إلى مستشفى “القديس جاورجيوس”.

وكانت ظاهرة دمج المستشفيات انطلقت في العاملين الماضيين في إطار استراتيجية إعادة الهيكلة لإنقاذ المؤسسات من الإفلاس وأخذت بالتوسع، بما أن التقديرات أشارت إلى أن نسبة 25 في المئة من مستشفيات لبنان متعثرة.

هذا وشهدنا أخيراً افتتاح مستشفيات جديدة على رغم الحديث عن أن القطاع الاستشفائي يواجه خطر الانهيار، فأعيد افتتاح مستشفيات “سان تريز” و”سان لويس” ومستشفى “أنطوان الخوري ملكة طوق الحكومي في مدينة بشري في شمال لبنان، إضافة إلى افتتاح أقسام جديدة لمستشفيات منها “بيروت” الحكومي الجامعي و”الكرنتينا”.

في هذا الشأن قال مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة جوزيف الحلو إن القطاع الطبي لم يكن يوماً منهاراً، كما كان يحكى، حتى خلال أسوأ الفترات في الأزمة، وحتى في ظل انتشار الجائحة، وعلى رغم انهيار في القطاع الطبي في الدولى الكبرى، كما حصل في إيطاليا وفرنسا، بقي القطاع الطبي في لبنان صامداً واستطاع أن يثبت على إمكانات فائقة.

وتابع الحلو “أما عند انفجار المرفأ، فكان على قدر المسؤولية على رغم صعوبة المأساة، وعبر آنذاك فريق طبي أتى من الخارج لتقديم الدعم في اليوم التالي، عن دهشته عند رؤية الجهوزية التامة للقطاع الطبي وقدرته على تخطي ما حصل، والتعاطي مع الظرف بمسؤولية كبرى”.

أما الظاهرة الجديدة التي تسجل حالياً مع دمج المستشفيات، فهي الوجهة الطبية الجديدة، على حد قوله، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في الفترة المقبلة مع انضمام مزيد من المستشفيات الصغيرة، أما عن افتتاح مستشفيات ومراكز طبية أخيراً، فهي من المستشفيات الصغيرة التخصصية في جراحة معينة ومجالات محددة وليست من تلك الشاملة والمتكاملة، وإن كان توجه جديد يستحق التقدير في كل الحالات.

عودة أوسع لولا الحرب

في السنوات الأخيرة، بدا أن هجرة أطباء اختصاصيين في مجالات معينة كانت الأكثر تأثيراً في القطاع الطبي، وهذا ما أثار قلق المعنيين بالشأن الطبي، وثمة إجماع على أن جراحة قلب الأطفال من الاختصاصات التي أصبح هناك نقص كبير فيها، وهذا ما يؤكده الحلو، مشيراً إلى أنه إضافة إلى جراحة الأعصاب والدماغ، حصل نقص في اختصاصيي جراحة القلب لدى الأطفال.

ويعتبر مدير العناية الطبية أن الوضع المالي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوضع السياسي، لذلك ما أن تشهد البلاد استقراراً في الوضع السياسي، من المتوقع أن ينعكس ذلك على الوضع المالي فيشجع مزيداً من الأطباء على العودة، إضافة إلى مئات الذين عادوا أخيراً.

وأكد المدير الطبي لمستشفى “أوتيل ديو دو فرانس” جورج دبر أن الأطباء رحلوا تباعاً بين عامي 2020 و2022، وصحيح أن الأزمة كان لها أثر كبير، إنما أتى انفجار المرفأ ليشكل حافزاً للأطباء حتى يغادروا بعد أن شعروا باليأس وانعدام الأمان في البلاد، فغادرت عندها النسبة الكبرى منهم، إنما شيئاً فشيئاً بدأت الحلحلة في القطاع الطبي عندما أصبحت شركات التأمين تغطي المرضى بالدولار، وقدمت المستشفيات محفزات للأطباء على سبيل الدعم الاجتماعي كأقساط المدارس لأطفالهم، وغيرها من التقديمات.

هذا إضافة إلى الزيادة التي أضيفت على المعاينات الطبية، لذلك بدأت تسجل عودة الأطباء بمئات إلى لبنان بمساعدة بعض المستشفيات التي وفرت هذا الدعم، فكثيرون منهم يفضلون أن يعودوا مع عائلاتهم للعيش في لبنان، لكن يبدو واضحاً أن الأطباء الذين عادوا في متوسط العمر أو في مرحلة متوسطة من مسيرتهم المهنية، أما الشباب الذين سافروا إلى فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية فلن يعودوا، بحسب جورج دبر.

وأوضح دبر أن عدم العودة ينطبق على من اقتربوا من سن التقاعد، لما تؤمنه الدول الأوروبية من تعويضات وحماية اجتماعية للمتقاعدين، مشيراً إلى أن 17 في المئة من الأطباء الذين غادروا مستشفى “أوتيل ديو دو فرانس” بدافع الهجرة عادوا للبنان، وهؤلاء بشكل خاص ممن غادروا إلى البلاد العربية.

من جهته يشير مدير المركز الطبي بالجامعة اللبنانية الأميركية “مستشفى رزق” جورج غانم إلى أن الأطباء غادروا مع بداية الأزمة وكثيرون استقروا مع عائلاتهم، لكن عاد من كان لديه عقد في الدول العربية لمدة عام أو اثنين، خصوصاً أن وضع القطاع الطبي في لبنان استقر من تلقاء ذاته، وفي ما يتعلق بالقطاع الخاص أوضح أنه مما لا شك فيه أنه حصل تأقلم مع الأوضاع، حتى أنه ثمة مستشفيات قديمة أقفلت ورممت وستفتتح قريباً.

انفجار المرفأ

إنما في الوقت نفسه كان للوضع الأمني تأثير واضح في قرار العودة للأطباء، وأدى إلى تأجيلها، فكثيرون اتخذوا هذا القرار، لكن الحرب الدائرة حالياً قادتهم إلى التروي، بانتظار أن تنجلي الأمور ويتمكنوا من العودة فعلاً، وفق غانم.

لا ينكر غانم أن القطاع الطبي لا يزال يفتقد أطباء من اختصاصات معينة تركوا فراغاً في مجالات اختصاصهم، لكن يشير إلى أن الأطباء الذين غادروا “مستشفى رزق” ليسوا كثر، وهم ممن حضروا إلى لبنان من فترة قصيرة وفضلوا متابعة حياتهم المهنية في الخارج، كذلك ثمة من غادروا بعد انفجار المرفأ، لكن عاد قسم منهم بالفعل.

لا يتخوف مدير المركز الطبي بالجامعة اللبنانية الأميركية ممن غادروا وما إذا كانوا سيعودون أو لا، إنما ما يقلقه أكثر هم من ليست لديهم نية في العودة من أصحاب الخبرات الذين تخصصوا في الخارج واكتسبوا خبرة، وهذا ما سيؤثر فعلاً في القطاع الطبي في لبنان في السنوات المقبلة.

وتابع غانم “اعتدنا أن نقبل طلبات بعشرات سنوياً من خبرات جديدة نحن في أمس الحاجة إليها، فالقطاع الطبي بحاجة دائماً إلى خبرات جديدة لأن التخصص في الخارج هو عبارة عن التأسيس المتين للأطباء، أما حالياً ليس هناك أي طلبات تقدم من أصحاب الخبرات الجديدة الذين يعتمد عليهم القطاع الطبي”.

أما المدير الطبي للمركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت جوزيف عتيق فيشير إلى أن ما بين 20 أو 25 في المئة من أطباء المستشفى غادروا تباعاً بدءاً من الأزمة المالية وأكثر بعد انفجار المرفأ، فمن كان لا يتردد في التضحية قرر المغادرة بعد الانفجار عندما فقد الأمان، متابعاً “حالياً بدأنا نشهد حركة عودة بوتيرة مقبولة، وكان من المفترض أن تزيد مع عودة مجموعة كبيرة من الأطباء لولا اندلاع الحرب، فمن أنهوا عقودهم الموقتة في الخليج وكان ينوون العودة بدلاً من تجديدها، فضلوا تأجيل عودتهم”.

وأوضح عتيق “هناك أطباء من غادروا من أجل تأمين تعليم أبنائهم في الخارج قد يعودون عند تخرجهم، خصوصاً أن الوضع المالي لم يعد هو المشكلة، وبالنسبة إلى الأطباء الشباب الذين غادروا باتجاه الخليج، من الطبيعي أن يعودوا”.

لذلك يفضل جوزيف عتيق عدم الحديث عن عودة فعلية للأطباء حتى اللحظة، بل عن وجود نية لكثيرين منهم بالعودة، أما في ما يتعلق بجراحة قلب الأطفال التي سجل نقص فيه بشكل خاص في المستشفى وفي لبنان، فيشير إلى أنه حصل تبادل للخبرات بين الجامعات لتخطي هذا النقص وتأمين هذه الخدمة على رغم الظروف الصعبة.

في مقابل عودة الأطباء يبدو أن الوضع ليس مماثلاً في ما يتعلق بالممرضين الذين غادر ما بين 3 آلاف إلى 3500 منهم، وفق ما توضحه نقيبة الممرضين والممرضات ريما ساسين، لافتة إلى أن هناك مطالبة مستمرة بتحسين أجورهم لأنه لم يحصل إلا تصحيح مرحلي، خصوصاً في مستشفيات معينة تجاوبت مع المطالب، ومستشفيات أخرى امتنعت عن ذلك.

وأوضحت ساسين أن الممرض أصبح يتقاضى بالفعل قسماً من أجره بالدولار، لكنها نسبة بسيطة لا تتخطى 10 في المئة، وهي غير كافية بالنظر إلى الظروف المعيشية في البلاد، لذلك تؤكد أن عودة الممرضين غير متوقعة إذا ما استمر الوضع على حاله، خصوصاً أن كثيرين رحلوا ليتمكنوا من تعليم أطفالهم، وتأمين مستقبلهم وحياة كريمة لهم، وهذا يتوفر في الخارج سواء في الدول العربية أو أوروبا أو الولايات المتحدة.

كارين اليان ضاهر – اندبندنت

Follow Us: 

Leave A Reply