لبنان يحتل “مرتبة متقدمة” على مستوى الفساد

يحتل بند “مكافحة الفساد” مكانة متقدمة في كل البيانات الوزارية التي تحدد الإطار النظري لعمل الحكومات اللبنانية المتعاقبة. وبانتظار تطبيق الوعود بالإصلاح، يستمر تعطيل “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” التي ما زال قانون تأسيسها “حبراً على ورق” وخطوة أولى في مشوار الألف ميل للمحاسبة. في موازاة ذلك يتقدم لبنان على سلم التصنيف الدولي للفساد في ظل استمرار المسار الانحداري لعمل الإدارات العامة، وتعمق الانهيار المالي والاقتصادي، وضرب مبدأ “الفصل بين السلطات”، والتأثير المتزايد للسياسة في عمل القضاء.

الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد… مسار طويل

في مايو (أيار) 2020 شهد لبنان ولادة “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”، ليشكل ذلك واحدة من الإنجازات المهمة لانتفاضة الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول). يشدد المحامي مجد أيوبي على أهمية القانون 175/2020 الذي أنشأ الهيئة وجاء نتيجة مسار تراكمي بدأ عام 2003، عندما أقرت الجمعية العام للأمم المتحدة “الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد”، التي انضم إليها لبنان عام 2009. استغرق المسار 11 عاماً لإقرار “قانون مكافحة الفساد في القطاع العام”، وإنشاء الهيئة الوطنية، وهي مدة “أطول مما يجب”، فقد اعترض تشكيل الهيئة كثير من العقبات، من ضمنها البحث في التعديلات الواجبة للتشريعات المحلية بغية التوافق مع الاتفاقيات الدولية، ويشير أيوبي في هذا السياق إلى “دور اللجان التي كان يشكلها الوزراء، إذ كان يبدأ العمل من الصفر في كل مرة يأتي وزير جديد”. ويضيف “كان من المفترض إقرار الاستراتيجية الخمسية لمكافحة الفساد في عام 2017، إلا أنه تأخر إلى مايو 2020، وكان لا بد من انتظار الـ24 من يناير (كانون الثاني) 2022 لصدور قرار تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”.

أهداف متعددة

يعتقد المحامي مجد الأيوبي أن هناك ثلاثة أهداف رئيسة يجب تحقيقها من خلال الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. يأتي في مقدمها “تعزيز الشفافية”، ومن ثم “تفعيل المساءلة”، إضافة إلى “منع الإفلات من العقاب”. وتلعب الهيئة دوراً جامعاً ومفصلياً في تحقيق هذه الأهداف، إذ يوضح أيوبي أن اختصاص الهيئة هو “السهر على حسن تنفيذ قوانين مكافحة الفساد في لبنان، التي جاءت نتيجة انضمامه إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وأهمها: قانون حق الوصول إلى المعلومات، وقانون حماية كاشفي الفساد، وقانون التصريح عن الذمة المالية ومعاقبة الإثراء غير المشروع، وقانون استرداد الأموال المتأتية عن الفساد”.

ويشدد أيوبي على ضرورة التزام مضمون المادة السادسة من اتفاقية الأمم المتحدة لناحية “إنشاء هيئة تتولى محاربة ومكافحة الفساد”، ومنحها ما يجب لتكريس الاستقلالية وتمكينها من العمل بالشكل المناسب، وتزويدها بالموارد المالية والمتخصصين، منوهاً بأن إنشاء الهيئة في لبنان “يعد خطوة مهمة، ولكن يبقى هناك الضرورة لتفعيلها”. تمتلك الهيئة صلاحيات واسعة “وهذا يشكل عاملاً إيجاباً في محاربة الفساد” بحسب أيوبي، موضحاً أنها “تتلقى الكشوفات ضد أي شخص تحيطه الشبهات، ولها حق الاستعانة بالضابطة العدلية للتقصي والتحري حول الشبهات، كما أن لها دور المشورة وإبداء الرأي في أي تشريع أو مرسوم أو قرار يرتبط بمكافحة الفساد، إضافة إلى حماية كاشفي الفساد ومنحهم مؤازرة أمنية، وتتلقى الشكاوى حول الامتناع عن تطبيق حق الوصول إلى المعلومات”.

لكن على المستوى الفعلي لم تفعل الهيئة كما يجب نظرياً. ويؤكد أيوبي أن “المهمة الوحيدة التي تحصل حالياً هي تسلم تصاريح الذمم المالية، إلى جانب التوعية والتثقيف بأهمية محاربة الفساد، ولكن عملياً لم تقم الهيئة بالمهام المناطة بها لناحية استقصاء الجرائم، أو الطلب من قضاء العجلة اتخاذ التدابير الاحترازية كمنع الفاسدين من السفر أو وضع إشارات منع التصرف”. ويعود السبب في ذلك إلى عدم التصديق على النظام الداخلي للهيئة، بحسب المحامي.

معايير دولية للفساد

تقوم مؤسسات مختلفة بمهمة “تقييم مستوى الفساد في الدول”، وتتعدد المؤشرات مثل “مؤشر مدركات الفساد” الذي تنشره “منظمة الشفافية الدولية” ومؤشر منظمة “فريدم هاوس” الأميركية و”مؤشر الحوكمة العالمي” الذي يصدره البنك الدولي ويعتمد على ستة مؤشرات فرعية هي مكافحة الفساد وفعالية الحكومة والاستقرار السياسي ووجود التشريعات وسيادة القانون، والمشاركة والمساءلة. ويصنف “مؤشر مدركات الفساد” 180 دولة وإقليماً من خلال المستويات الخاصة في قياس الفساد في القطاع العام على مقياس محدد من صفر (شديد الفساد) إلى 100 (نظيف جداً).

ويؤكد المنسق العام الوطني للتحالف اللبناني للحوكمة الرشيدة، المتخصص مارون الخولي، أن المعايير “تختلف بين دول العالم الأول والعالم الثالث بناءً على السياق الثقافي والاقتصادي. في العالم الثالث قد تواجه الدول تحديات في تطبيق المعايير بسبب نقص البنية التحتية والتنظيم، بينما يكون في الدول الأكثر تقدماً هناك تركيز أكبر على الشفافية والحوكمة”، مضيفاً “لذا من الصعب تحقيق توحيد في المعايير بسبب التنوع الثقافي والاقتصادي، ولكن علينا الإقرار بأن المجتمع الدولي يسعى باستمرار إلى تحسين وتوحيد الطرق لقياس الفساد لتعزيز العدالة والشفافية على نطاق عالمي، وهذا الأمر يتطلب وقتاً وجهوداً مضنية في سبيل إنجازه”.

كما يتطرق الخولي إلى الجهات والمؤسسات الدولية التي تلعب دوراً في فرض معايير مكافحة الفساد وقياسها وفي مقدم تلك الجهات الأمم المتحدة التي تسعى إلى تعزيز الشفافية والحوكمة، والبنك الدولي الذي يشجع على مكافحة الفساد ويدعم الدول في تعزيز معايير الحوكمة، وكذلك “منظمة الشفافية الدولية” (Transparency International) التي تنشر “مؤشر مدركات الفساد” (CPI) سنوياً لتقييم مستوى الفساد في الدول، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) التي تعزز الممارسات الدولية لمكافحة الفساد من خلال “اتفاق مكافحة الرشوة”، والاتحاد الأوروبي الذي يعمل على تعزيز مكافحة الفساد في الدول الأعضاء وفي الدول المرشحة للانضمام.

ويؤكد الخولي الطابع التعاوني لتلك المؤسسات والجهات بهدف “تطوير وتعزيز المعايير والمبادئ التوجيهية لمكافحة الفساد، وتقييم تنفيذها على مستوى العالم”.

مؤشرات عالية للفساد

ويلاحظ الخولي أن “أكثر من ثلثي البلدان لديها مشكلة خطرة مع الفساد” و”سجل لبنان في عام 2022 مرتبة 150 من أصل 180 دولة، وهو سبق بلداناً عربية أخرى مثل اليمن وجنوب السودان وسوريا والصومال”. ويعتبر الخبير أن “هذا أمر معيب في حق لبنان خصوصاً أنه شهد عام 2019 ثورة شعبية تركزت مطالبها على مكافحة الفساد، والدعوة إلى محاكمة منظومة الفساد”، مستدركاً “إن جذور الفساد في لبنان متأصلة بكل القطاعات تحميها مافيا مركبة تستمد قوتها من مفاصل السلطة”.

ويعدد الخولي مجموعة من السمات التي تجعل من لبنان “دولة فاسدة”، معتمداً على عوامل عدة تشمل “الفساد الحكومي في مؤسسات الدولة، واستغلال السلطة للحصول على رشى أو تحقيق مكاسب شخصية، ونقص الشفافية في كل العمليات الحكومية والأعمال التجارية، وضعف النظام القضائي في محاسبة المتورطين في الفساد، إضافة إلى تداخل المصالح بين القطاع العام والخاص بشكل غير صحيح، كذلك فإن عدم توزيع الثروة بشكل عادل يمكن أن يؤدي إلى تصاعد الفساد”، مشيراً إلى أن “تقييم وضع لبنان لا يتطلب جهداً كبيراً، فالأمور واضحة، إذ تستطيع أي جهة أو مؤسسة دراسة الحالة اللبنانية، من انحلال الدولة، وتعطل مرافقها العامة إلى عدم توقيف المتورطين في كل الجرائم الكبرى من انفجار مرفأ بيروت إلى سرقة ودائع اللبنانيين، إلى صفقات التراضي في معظم الوزارات، وعدم جدوى تقارير التفتيش المركزي أو هيئة الشراء العام، وحجم الرشى والارتكابات، آخرها ما ظهر في الدوائر العقارية، وهيئة إدارة السير، إلى فضائح الفيول والمازوت والكهرباء”.

كما يتطرق الخولي إلى ملفات أخرى عززت الفساد في لبنان بما فيها النزوح السوري وتكريس سياسة الإفلات من العقاب وأزمة المصارف والحجز على أموال المودعين، معبراً عن أمله بـ”انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتبنى سياسة مكافحة الفساد، ويعمل على تفعيل قوانين تتصل بها، ويساعد في تشجيع المشاركة المدنية وتمكين الصحافة لكشف الفساد، ووضع معايير تعزز الحوكمة الرشيدة، ويعمل على بناء بيئة تشجع على التنمية المستدامة”.

بشير مصطفى – اندبندنت

Follow Us: 

Leave A Reply