جيش العدوّ بين حربَي استنزاف ورعب الحرب الشاملة

تبلورت لدى قيادة جيش العدو فرضية أن حزب الله يصعّد ضغوطه الميدانية كلما اقترب موعد العملية البرية ضد المقاومة في قطاع غزة. وسيؤدي ذلك، بحسب تقديرات الجيش، إلى نشوب أيام قتالية، بحسب ما أكّدت تقارير إعلامية إسرائيلية، لكن من دون أن يتطور إلى حرب شاملة لا يريدها أي من الأطراف في هذه المرحلة. ويبدو أن هذا التقدير تعزَّز أيضاً لدى جهات القرار على وقع ارتفاع وتيرة عمليات حزب الله ضد جنود الاحتلال على طول الحدود مع لبنان، رداً على اعتداءات العدو التي لا تزال مضبوطة بسقوف متعدّدة تجنباً لردّ مماثل يطاول العمق الإسرائيلي.

العامل الإضافي الذي عزَّز هذا المفهوم – التقدير، لدى قيادة جيش العدو، أن الحزب كان ولا يزال يؤكد على لسان مسؤوليه أن المقاومة لا يمكن أن تبقى مكتوفة الأيدي إزاء مساعي إسرائيل والولايات المتحدة للقضاء على المقاومة في قطاع غزة، إضافة إلى الرسائل المضادة التي وجّهها كبار المسؤولين والقادة في محور المقاومة محذّرة من مفاعيل استمرار ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين في القطاع، مقابل تحذيرات المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين وتهديداتهم.

مع ذلك، فإن العامل الرئيس الذي تحوّل إلى المؤشر الأهم لدى قادة العدو، أن الحدود مع لبنان تزداد سخونة وتتطور في اتجاهات أكثر خطورة كلما اقترب موعد الاجتياح البري لقطاع غزة. ومن المؤشرات والحوافز، في آن، استمرار سقوط الشهداء والقتلى على طرفي الحدود، وهو عامل تسخين إضافي للوضع الميداني.

ويبدو أن التقدير الذي أصبح أكثر اكتمالاً لدى الجهات المختصّة في كيان العدو أن حزب الله نجح، حتى الآن، في بلورة مسار عملياتي، ضمن إطار تثبيت قواعد الاشتباك، يتقاطع مع النشاطات العملياتية الأخرى على الحدود مع لبنان رداً على اعتداءات العدو ومجازره في القطاع.

من الواضح أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية تقارب الوضع الميداني الحالي على الحدود مع لبنان بمخاوف عميقة من أن يكون تأسيسياً وتمهيدياً لتطور أشدّ، على وقع العديد من المتغيّرات، خصوصاً أن كل الرسائل الدولية والأميركية، المباشرة وغير المباشرة، لم تنجح في انتزاع موقف من حزب الله يوضح فيه سقف عملياته وحدودها. ويؤشّر ذلك إلى أن الحزب تمكّن، عبر هذا الأداء الميداني والسياسي، من توسيع مساحة اللايقين لدى مؤسسات القرار في تل أبيب وواشنطن (وأيضاً لدى بعض أصدقائه)، ما يمنحه هامشاً أوسع في المناورة والحركة، وفي المبادرة والردّ.

في الخلاصة، يتضح أنه كلما مرّ الوقت يتعزز لدى جيش العدو التقدير بأن السيناريو الأكثر سخونة لا يزال أمامه على الحدود مع لبنان. لكن، في المقابل، يستبعد جيش العدو حتى الآن التدهور نحو حرب شاملة. وهو موقف يكشف عن مجموعة تقديرات وخيارات تتصل بطرفَي الصراع، من وجهة نظر المؤسسة العسكرية والاستخبارية.

يكشف هذا الاستبعاد أن جيش العدو لا يزال، حتى الآن، يعمل تحت سقف الضوابط، بالامتناع عن خيار عملياتي يستهدف العمق اللبناني والذهاب إلى خيار عدواني واسع. وينسحب ذلك، أيضاً، على كل نشاط عدواني يُقدِّر العدو أنه قد يدفع حزب الله للرد بما يتجاوز سقوفاً، ويؤدي إلى مزيد من الارتقاء نحو الحرب الشاملة.

لكن ذلك، يكشف، أيضاً، أنه رغم الحشود الغربية في البحر وفي فلسطين المحتلة بعد استدعاء الاحتياط لجيش العدو ، لا يزال الأخير يقرّ بفعالية قوة ردع حزب الله في بعديْه الإستراتيجي والعملياتي، ما ينعكس انكباحاً في سقف اعتداءات العدو.

ويستند جيش العدو أيضاً في تقديره لاستبعاد الحرب الشاملة إلى أن حزب الله لا يرى أن هذا هو وقت المعركة الكبرى، إلى مجموعة عوامل أخرى أصبحت جزءاً من الخطاب السياسي والإعلامي التقليدي في إسرائيل، ويتم استحضارها مع كل محطة تنطوي على إمكانية التصعيد. تبدأ من تدهور الوضع المالي والاقتصادي في لبنان. ومن أن أي حرب شاملة ستجعل هذا الانهيار أكثر خطورة، وأن هذا العامل يحضر بقوة لدى حزب الله ويساهم في بلورة خياراته حفاظاً على لبنان.

بعيداً عن مناقشة كل من هذه العوامل، إلا أن المفهوم الذي ينبغي أن يحضر لدى استعراضها، أيضاً، أن هناك فرقاً بين الوقائع التي قد يكون الكثير منها صحيحاً، ومفاعيلها وتأثيرها على مؤسسات القرار، خصوصاً عندما تكون هناك قضايا واستحقاقات تفرض خيارات من موقع الضرورة، وقد ترتقي إلى اللَّاخيار. وضمن هذا الإطار، يلاحظ أن حزب الله نجح في كثير من المحطات في منع العدو من تحويل الكثير من هذه الوقائع إلى قيد على قراراته عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن لبنان وأمنه ومقاومته. وتجلّى ذلك في منع جيش العدو من استغلال صعوبات الوضع اللبناني وتعقيداته لتغيير قواعد الاشتباك وتوسيع هامش اعتداءاته كي يحوّلها إلى ساحات اعتداء عسكري. رغم حضور العوامل التي تمّت الإشارة إليها من نتائج خطيرة يمكن أن تترتب على أي مواجهة عسكرية على الوضعين المالي والاقتصادي…

إلى ما تقدّم، استجدّ عامل جديد بعد مفاجأة «طوفان الأقصى»، وهو تصدّع الثقة بتقديرات الاستخبارات والمفاهيم المزروعة في وعي مؤسسات القرار السياسي والأمني إزاء واقع المقاومة في فلسطين ولبنان. وهو عامل يجعل الاستناد إلى أي تقديرات في هذا الاتجاه، بضمانة محدودة، وبمنسوب أعلى من عدم الثقة، وهو معطى يبرز في تصريحات ومواقف كثير من الخبراء والمعلّقين. لذلك حشد جيش العدو أيضاً جزءاً هاماً من جيشه على الحدود الشمالية تحسباً لأي تطور ميداني مفاجئ رغم أولوية الحرب على المقاومة في قطاع غزة في هذه المرحلة.

هكذا تحوَّلت إمكانية تدخل حزب الله ومحور المقاومة في الحرب على المقاومة في قطاع غزة، إلى عامل محوري في تقديرات وخطط وخيارات الجيشين الأميركي والإسرائيلي. وضمن هذا الإطار، تحضر مروحة من السيناريوهات، من ضمنها وأخطرها، ماذا لو توغّل جيش العدو في عمق قطاع غزة، وتحوّل الأخير إلى مستنقع يستنزف جنوده وضباطه، وتزامن ذلك مع تصاعد العمليات على الحدود مع لبنان، ما يجعل جيش العدو بين معركتَي استنزاف… فهل لهذه المخاوف موقعها أيضاً في تأخير العملية البرية أو تقييدها… وهل تورّطت إسرائيل في السقف المرتفع الذي صاغته على وقع الصدمة التي تلقّتها؟ كل ذلك مرهون بقدرة المقاومة في غزة على الصمود وتبديد خيارات العدو ورهاناته، وهو المتوقّع منها.

علي حيدر – الأخبار

Leave A Reply