“دولرة” الضرائب والرسوم سيف ذو حدّين

يطرح توجه الدولة اللبنانية إلى دولرة بعض الرسوم والضرائب إستثنائيا، اسئلة جدية حول مصير ومآل وظيفة مصرف لبنان ومعه الليرة في ما لو اعتمد الدولار كعملة رسمية في الفوترة والجبايات.

بعض الاسئلة ينطلق من مفاهيم سياسية وسيادية يتمسك أصحابها ببقاء دورٍ مركزي لليرة في حركة الاقتصاد، وهم في منطلقهم هذا يضعون العملة الوطنية في مكانة “المقدسات” الوطنية، كالعَلم والنشيد الوطني، والرموز الوطنية الأخرى. لكن واقع الأمر النقدي والاقتصادي والانهيار الذي يظلل مكانة الليرة وقيمتها من جهة، وحاجة مؤسسات الدولة، وخصوصا الخدماتية منها، الى العملة الصعبة للاستمرار في تقديم خدماتها من جهة أخرى، فرضت على المسؤولين تجرّع كأس الدولرة.

يسجَّل للدولة للبنانية التي غابت عن جميع المعالجات الجدية منذ بداية الأزمة، أنها تسلّحت بالجرأة الادبية والسياسية للاعتراف بأن لا حلَّ مرحليا إلا بالاعتماد على الذات، و”حكّ الجلد” بــ”ضفر” جباية الدولارات اللازمة لتأمين تمويل الحد الأدنى من الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والدواء ورواتب القطاع العام، خصوصا بعدما تأكد أن “حنفية” الدعم الخارجي والقروض الدولية لم تعد “شغّالة” على خلفية عدم ثقة الخارج دولاً ومؤسسات مانحة بالمسؤولين اللبنانيين.

لكن الذهاب باتجاه الدولرة يطرح ايضا إشكالية الدور المتبقي لمصرف لبنان، وهو المؤسسة المؤتمنة قانونا على صحة العملة الوطنية، وشكلها وقيمتها والسياسات النقدية التي تصب في خدمة استقرارها وبقائها المحرك الفعلي للدورة الإقتصادية، عنوانا ورمزا وطنيا وماليا للبلاد.

يلفت أحد القانونيين إلى مخاطر اللجوء المفرط الى فرض الرسوم والضرائب بالدولار، ويحذر من أن ذلك يضع الإقتصاد برمّته، وجبايات الدولة واحتياطاتها، تحت رحمة المحاكم والخزانة الأميركية متى شاؤوا.

فبموجب القوانين الأميركية، يحق للقضاء والخزانة الأميركية، ملاحقة أي متعامل بعملتهم الوطنية، أي الدولار، في حال وجود شبهات فساد أو غيره، وهذا التشريع ساري المفعول وفق القانون الأميركي، خارج الولايات المتحدة وليس داخلها فحسب.

هل يفقد “المركزي” دوره؟

تحدد مصادر متابعة مهام مصرف لبنان بإصدار النقود بنوعيها الورقي والمعدني، والسهر على السياسة النقدية. وتعدّ المصارف المركزية الجهة الوحيدة المخوّلة قانونيا لإصدار النقود. فإصدار النقود والإشراف على السياسة النقدية والائتمانية للدولة وادارة السيولة، تسمح لمصرف لبنان ولأي مصرف مركزي بتحقيق اهدافه لا سيما استقرار الأسعار ودعم النمو. ويحدد المصرف المركزي سعر الفائدة ويتحكم بالكتلة النقدية المتداولة في الاقتصاد من خلال أدوات السياسة النقدية المعروفة.

أما اعتماد الفوترة بالدولار الأميركي وتحصيل الضرائب والرسوم بالعملة الخضراء بدلا من العملة اللبنانية، فسيؤدي برأي المصادر الى خسارة مصرف لبنان دوره الاساسي ويمنعه من تحقيق اهدافه، علماً أن الدول التي تلجأ الى الدولرة هي تلك التي تعاني من تضخم مرتفع وتحاول تثبيت مستويات الأسعار.

كل عملة، من حيث المبدأ على الاقل، تستند الى دولة، فيما ارتبطت السيادة السياسية بالسيادة النقدية بشكل وثيق منذ قرون طويلة. ولكن في أي حالات تتجه الدول الى اعتماد الدولار بديلاً من عملتها الوطنية؟ توضح المصادر عينها أن عدد الدول التي تخلت عن عملتها الوطنية محدود جدا، ابرزها زيمبابوي، وسبقها في هذا المجال كل من الإكوادور، والسالفادور، وبورتوريكو، وبناما، التي استبدلت عملتها الوطنية بالدولار الأميركي، وذلك لمواجهة التضخم المالي لديها وإنقاذ اقتصاداتها، في إطار ما يُعرف بـ”الدولرة” الشاملة.

وتعتبر المصادر ان “سلبيات الدولرة الشاملة اكثر من ايجابيتها”. فهي اولا تخالف مبدأ السيادة الوطنية التي تُعدّ العملة الوطنية أحد أبرز وجوهها. وبحسب القانون اللبناني فهو يعطي الليرة اللبنانية قوة إبراء مطلقة، ويعاقب كل من يرفض قبول الليرة على كل الاراضي اللبنانية.

ووفق المصادر فإن الدولرة الشاملة ستؤدي الى فقدان مصرف لبنان دوره الاساسي في ادارة السياسة النقدية والمحافظة على الاستقرار النقدي والمساهمة بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فالعملة اللبنانية وادارة السيولة بها هي السلاح الاساسي الذي يملكه مصرف لبنان لادارة السياسة النقدية. أما الدولار الاميركي، فعلى رغم كونه عملة تداول عالمية، إلا انه تحت ادارة البنك الفيديرالي الاميركي وسيطرته، وهو العملة الرسمية للولايات المتحدة الاميركية، وتاليا مَن يتحكم به هو السلطات الاميركية حصراً.

وتحذر المصادر من اعتماد الدولرة في كل مفاصل الحياة اليومية، بما يؤدي الى اضعاف العملة اللبنانية اكثر وأكثر، ويحرم مصرف لبنان من دولارات تصل اليه عبر عمليات التحويل من الدولار الى الليرة، والتي يستخدمها في سياق تدخّله للحد من ارتفاع سعر الصرف.

في رأي بعض الخبراء ان اعتماد الدولرة الشاملة سيفضي الى السيطرة على التضخم وتقلّب الاسعار، وتاليا تأمين حد ادنى من الاستقرار. هذه الحقيقة لا تنفيها المصادر، الا انها تؤكد أنه “حل موقت وغير مستدام، مع الاشارة الى ان المشكلة الاساسية في الدولرة لا سيما دولرة الفواتير، هي في ان الكثير من اللبنانيين ليس لديهم إمكان الوصول إلى الدولارات لتسديد الفواتير وتسديد ثمن حاجاتهم الاستهلاكية. عدا عن ذلك، فإنه في حال اعتماد الدولرة الشاملة او شبه الكاملة، سيكون الطلب على الدولار أكبر بكثير من الدولار المعروض، وتاليا فإن الدولرة لن تؤدي إلا إلى تعميق الفقر، وستزيد معاناة العائلات اللبنانية خصوصا التي ينحصر مدخولها بالليرة، وستزداد صعوبة تأمين الحد الادنى من الرعاية الصحية والتعليم والغذاء”. في المقابل، لا تنكر المصادر أن “اعتماد الدولار الاميركي للاسعار في السوبرماركت وفتح المجال للدفع بالدولار او بالعملة اللبنانية هو حل وسطي حاليا، ويمكن أن يشمل هذا الخيار المكلفين بتسديد بعض الضرائب بالدولار الاميركي، تماما كما هي الحال مع مؤسسة كهرباء لبنان، بما يعزز ايراداتها بالدولار، خصوصا ان معظم مصاريفها بالدولار لا سيما استيرادها للنفط والغاز”. وبما ان اللبنانيين تعبوا من تقلب سعر صرف الدولار، يرى البعض ان من الأفضل استخدام الدولار على المستوى المجتمعي، فيما الحل برأي المصادر هو “اعادة الثقة لليرة اللبنانية، وهذا يحتاج الى وقت وجهد واصلاح شامل”.

العياش: أحلام يقظة!

فيما ينحو بعض غلاة اليائسين من عودة الحياة الى الليرة والإقتصاد، إلى المطالبة باعتماد الدولرة الشاملة على الصعد كافة، وفرض التعامل والبيع والشراء، وحتى الرواتب والاجور في القطاعين العام والخاص، يستغرب البعض الآخر هذه الطروحات، ويجزم أنها ستؤدي حتما الى الغاء الليرة، وجزء كبير من دور المصارف ومصرف لبنان ووظيفتهما في تعزيز النمو وتحريك الاقتصاد.

ولكن النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور غسان العياش يستبعد التحول نحو الدولرة الكاملة في الاقتصاد وفي النظام النقدي، ويؤكد ان “هذا الأمر يشبه أحلام اليقظة ويستحيل تحويله إلى عالم الواقع”.

ويعتبر أن “التحول نحو الدولرة بهدف الخروج من المآزق والأزمات النقدية هو ضرب من المستحيل، لاسيما في أنظمة ضعيفة مثل النظام النقدي اللبناني. ولو كان هذا الأمر ممكنا لطبّقه الكثير من دول العالم كمهرب من الأزمات النقدية. فاعتماد الدولرة الكاملة يتطلب شروطا غير متوافرة خصوصا في لبنان، إذ إنه يتطلب أن تكون إيرادات الدولة وكذلك نفقاتها بالدولار، وبالتوازي يفترض أن تكون ميزانيات الأفراد والمؤسسات كذلك بالعملة الأميركية. يعني يجب أن تكون، مثلا، مبيعات الشركات وأجور عمالها، وكل أرباحها وخسائرها بالعملة الأميركية، فتسدد الضرائب للدولة بهذه العملة حتى تتمكن الدولة من وضع موازناتها بالدولار”.

وإذا كان النظام النقدي الأقرب إلى هذا النموذج هو النظام النقدي في بلدان الخليج العربي حيث الربط الثابت للعملات الخليجية بالدولار الأميركي، بَيد أن العياش يرى أن “قدرة بلدان الخليج على اعتماد هذا النظام وتحقيق الاستقرار النقدي الذي يبنى عليه يعود إلى امتلاك هذه البلدان احتياطات ضخمة بالعملات الأجنبية ناتجة عن مبيعات البترول. فاحتياطات النقد الأجنبي في المملكة العربية السعودية، من دون الذهب، قُدرت في تمّوز الماضي بنحو 402 مليار دولار، وكانت في حدود 418 مليارا في شهر حزيران، ووصلت إلى 731 مليار دولار في شهر آب من سنة 2014. اما في دولة الإمارات العربية المتحدة فتبلغ الاحتياطات النقدية 151 مليار دولار وفي دولة قطر 65 مليارا. في المقابل، فإن الاحتياطات بالعملات للجمهورية اللبنانية لا تصل إلى 10 مليارات دولار، إذا جمعنا الإيداعات الخارجية لمصرف لبنان والمصارف معا. وإذا احتسبنا مطلوبات مصرف لبنان للمصارف تظهر أمامنا فجوة – أي رصيد سلبي – تبلغ 72 مليار دولار، وفقا لبيانات الحكومة. ومن البديهي أن مصرف لبنان لا يستطيع خلق النقد الأجنبي لكي يمكن التفكير بهذا النظام”.

ولكن ماذا لو تحققت “الفرضية المستحيلة” بتحول النظام النقدي والاقتصادي إلى الدولرة الكاملة، هل يبقى للمصرف المركزي دور؟ يؤكد العياش: “هذا الامر لا يلغي دور المصرف المركزي، فهو سيبقى على وظائفه الأساسية الأخرى، وخصوصا حراسة المجتمع ضد التضخم ومراقبة السيولة عن طريق مراقبة النشاط المصرفي وتنظيمه ووضع الضوابط له. ففي بلدان الخليج، وعلى رغم الارتباط الثابت بين العملات المحلية والدولار، تلعب المصارف المركزية دورا حيويا وفاعلا في توجيه وضبط النشاط المصرفي والسوق المالية”.

 سلوى بعلبكي – النهار

Leave A Reply