قصة قصيرة

قهقهة إبليس

عبد المجيد زراقط

استدعى إبليس أحد مساعديه، وقال له: أريد منك أن تنفِّذ مهمَّةً صعبة. قال المساعد: حاضر. قال إبليس: أريد أن تُغوي انساناً. قال المساعد: ما الصُّعوبة في هذه المهمَّة، وهي شَغْلتنا منذ بدء الخلق!؟ قال إبليس: هذا الانسان الذي أُريد أن تغويه تقيٌّ كما يبدو… ولا يكفُّ عن ترداد قول الله لي: (فاخرج منها انك رجيم، وان عليك اللعنة إلى يوم الدين)، ولا ينفكُّ عن الوعظ، بعد أدائه الصَّلاة في المسجد الجامع، وفي جميع مجالسه، وكثيراً ما يسمع الناس قوله:

– ” اذا وقعت اللُّقمة، من حرام، في جوف العبد، لعنه كلُّ ملكٍ في السماوات والأرض… ” و” حين يسكن رضا الله قلوبنا، يصبح كلُّ شيءٍ أجمل “.

هذه الثنائية في السلوك: رفض الحرام وطلب رضا الله، تقضي على ما عزمت على القيام به منذ بدء الخلق، عندما قلت لله: (لأغوينَّهم أجمعين إلاَّ عبادك منهم المخلَصين…). إنِّي أريد أن تغويه، فلا يكون من هؤلاء المخلَصين. هل تستطيع ذلك ؟

قال المساعد: أستطيع. دلَّني عليه.

قال إبليس: يسمُّونه المساعد، والمناسب، كما أخبرني زميلك. وهو، كما وصفه لي، رجلٌ طويل القامة. نحيل. لون وجهه يتغيَّر، وفي الغالب يكون رماديَّاً، ويكون مرَّةً حليقاً، ومرَّةً طويل اللِّحية حليق الشارب، ومرَّةً طويل اللِّحية والشارب، عيناه تتَّسعان وتضيقان، وتسترقان النظر، دائماً، مثل عينيِّ الثعلب عندما يقترب من قنِّ الدَّجاج. يرتدي بذلةً رماديَّةً وقميصاً أزرق، لايغيِّرهما من شدَّة بخله، ويلاعب ابتسامته في كلِّ حين، ويرطِّب، في كثير من الأحيان، شفتيه بلسانه، ولاتفوته صلاة الجمعة في المسجد الجامع أبداً…

قال المساعد: كفى… سأعرفه.

قال إبليس: معك أسبوع فقط لانجاز المهمَّة.

أدَّى المساعد التَّحية، وقال: حاضر.

وخرج.

وعاد بعد أسبوع، وهو يحمل مغلَّفاً كبيراً، وأعطاه لمعلِّمه، وهو يبتسم. أخرج إبليس من المغلَّف الثقيل أوراقاً، وراح يقرأها، وسرعان ما بدأ الفرح يطفح من وجهه.

(هو المعروف بالمساعد والمناسب، نال شهادة المرحلة المتوسطة، ولم يكمل تعليمه. توسَّط له “الزعيم”، فتمَّ التعاقد معه للتعليم في مدرسة قرية نائية. كرَّمه أحد وجهاء تلك القرية، وأسكنه في غرفة من غرف بيته الكبير، وطلب من أسرته أن تُعنى به، فتولَّت ابنته، وكانت فتاة جميلة، في الخامسة عشرة من عمرها، ذلك. فكثُر تردُّدها إلى غرفته. وفي ليل مظلم، كانت تُحضر له العشاء، اقترب منها، فحضنها، وحاول شدَّها إلى فراشه. قاومته، وصرخت، فهرب، و قصد “الزعيم” وادَّعى أنَّ الوجيه طرده من المدرسة، لأنَّه دافع عن “سعادته” في مجلس تمَّ النيل فيه منه. ضحك “الزعيم”، وقال له: لاتكذب، فأنا أعرف ما حدث، وقد جاء الوجيه، وهو من أنصاري، وأخبرني ما فعلت، وطلب منِّي أن أنقلك، من مدرسة قريته، لأنَّه سيقتلك ان عدت إلى القرية. أقرَّ بما فعل، فهزَّ “الزعيم” رأسه، وقال له: أنت مناسب لي. سأنقلك كما طلب الوجيه. وأُلحقك بالوزارة موظَّفاً اداريَّاً. انحنى على يد الزعيم يلثمها، وأكثَر من ترداد عبارات الشكر والولاء.

التحق بالوزارة. ومنذ اليوم الأوَّل لالتحاقه بها، راح يسأل عمَّا يحبُّ مدير القسم، فعلم أنَّه يهوى اقتناء الأحذية المتميِّزة، فقصد بائع أحذية يفرش أحذيته المتنوِّعة في ميدان المدينة الواسع، و”حطَّ عينه” على حذاء أسود فخم، يلمع تحت أشعَّة الشمس، وبخفَّة يدٍ خبيرة، غافل البائع وحمل الحذاء ووضعه تحت ابطه، وهرول. وفي صباح اليوم التالي، كان أمام مدير القسم يقدِّم له الهديَّة ملفوفةً بورق زاهي الألوان، وهو يقول: حذاء ايطالي أهداني ايَّاه أخي العائد منذ أيَّام من روما، ووجدت أنَّ حضرتكم أولى به. ابتسم المدير، وأخرج الحذاء من لفَّته، وتأمَّله بنظرات الهاوي الخبير، وقال: صناعة محلِّيَّة… تأتأ هو، فقال المدير: وان يكن… دعنا منه، أنت تلزمني. مناسب لي. لديَّ مهمَّة ان نجحت في القيام بها، عيَّنتك مساعداً لي. قال: حاضر. قال المدير: أُلحق بقسمي موظَّف “قطع رزقنا”. ينجز كلَّ المعاملات من دون اكراميَّة، وبسرعة، ففقد الموظَّفون الاَخرون زبائنهم ورزقهم…، أريد منك أن تغافله، وتضع هذه الرُّزمة من النُّقود في دُرجه، واخبرني عندما تفعل ذلك.

وأخرج من درجه رزمةً صغيرةً من النقود، وأعطاه ايَّاها.

قال هو: مهمَّة بسيطة. دلَّني عليه.

قال المدير: انزل إلى الطابق الثاني، تجد صفَّاً من الناس يقف أمام أحد المكاتب…

قاطعه هو، وقال: عرفته. كامل…. وهل يخفى القمر، كما يقول الزَّبائن عنه!؟، وضحك.

قال المدير: اذهب… أنت مساعد مناسب… مناسب…

لم يجد صعوبةً في تنفيذ المهمَّة. أخبر المدير بما فعل، فجاء هذا ومعه عدد من الموظفين إلى مكتب كامل. أقفل باب المكتب. فتَّش دُرجه. أخرج الرُّزمة. بُهت كامل، وقال: ليست لي. قال المدير: التُّهمة ثابتة، والتسوية جاهزة. ان لم تقبل أتَّصل بالشرطة.

قبل كامل التسوية، وتقضي بأن يأتي كامل اَخر كلِّ شهر، ويوقِّع في دفتر الدَّوام الرسميِّ عن أيَّام الشهر كاملةً، ويقبض راتبه، ويعود من حيث أتى…

صار اسمه المساعد والمناسب، وبرع في أداء المهمَّات، وصارت حصَّته معروفة نسبة مئويَّة من كلِّ معاملة، لا يقبل المساومة، لأنَّه كما يقول، لا “يأكل” وحده.

واستدعاه، ذات يوم، المدير العام، وقال له: أريد أن تثبت لي أنَّك مناسب، كما يسمُّونك هنا في الوزارة.

قال: حاضر.

قال: المدير… مدير قسمك… كبر كرشه، لم تعد الأبواب تتَّسع له، أطِح به تأخذ مكانه، وتصبح مساعدي.

قال: كيف ؟

قال: أتحتاج إلى أن أدلَّك ؟

قال: حاضر.

وفي اليوم التالي، علا صراخ امرأة في مكتب مدير القسم. هرع الموظفون. رأوا فتاةً فاتنةً تجلس على الأرض، وتشدُّ شعر رأسها الكستنائي الطويل، وتصرخ: الوحش… هجم عليَّ… أراد أن يغتصبني… الوحش… أين رئيسه ؟! يا ناس، يا ناس… هاتوا الشرطة ؟!

أتى “المساعد” و”المناسب”. قال للمدير الجالس وراء مكتبه مصفرَّ الوجه: فاسد فهمنا… أمَّا وحش…، فهذه كبيرة جدَّاً، فقال له المدير: فعلتها بطلبٍ منه!؟ سبقني فغلبني..! وجاء المدير العام. طلب اخلاء المكان. وقال للمدير: أنت معلِّم، وتعرف. التسوية جاهزة… لم يدعه المدير يكمل. قال: أنا ذاهب إلى بيتي. وتدبَّر أنت أمر نقلي إلى وزارة أخرى…

وفيما المدير، يجمع أوراقه وأغراضه رفع رأسه، و نظر إلى المدير العام وقال له: سيأتي يومك مادام هذا المناسب، وأشار إلى “المساعد” و”المناسب”، سيصير مساعدك. اسبقه قبل أن يسبقك.

كان المناسب يساعد الفتاة على النهوض، وعلى ارتداء ملابسها، وينظر إلى المكتب الفخم، وكرسيِّه الفارغ، ويرطِّب شفتيه بلسانه، ويقول لها: غداً أدفع لك، التعامل بيننا طويل، فأنت مناسبة لي.

لم يكمل إبليس قراءة الأوراق. أعاد ما قرأه منها إلى المغلَّف. ثم رفع رأسه، ونظر إلى البعيد، وقال لمساعده، وهو يضحك: ألا تخشى أن يأخذ مكانك ؟

قال المساعد: بل أخشى أن يأخذ…

لم يكمل. قاطعه إبليس: ماذا تريد أن تقول!؟ هل عليَّ أن أخشاه!؟

قهقه إبليس…، ثم علت قهقهته، ومشى، وهو يقول: ليت اَدم يسمع قهقهتي…

المصدر: النهار العربي

Leave A Reply