التشريع العالق بين المجلس والحكومة هو الفرصة الأخيرة قبل قطع التمويل

لم يكد الحاكم الجديد وسام منصوري يتسلم مهماته على رأس المجلس المركزي لمصرف لبنان، حتى بدأت الأزمات تتفجر في وجهه، بعدما رفع ونواب الحاكم السقف عالياً في وجه السلطة السياسية، من خلال شرطين هدّدا عرش السلطة المتراخية عن تحمّل مسؤولياتها في إدارة الأزمة. طالب منصوري والنواب بإبعاد السياسة عن الاقتصاد، واشترط وإياهم أيّ تمويل للدولة بإقرار تشريع يجيز الاقتراض. ورفع لهذه الغاية عقد اقتراض محدّداً في الزمان والآلية التنفيذية له. كما ربط ممارسة المجلس المركزي لمسؤولياته بخطة اقتصادية تتناول القوانين الإصلاحية المطلوبة.

لوهلة، بدا أن الحاكم الجديد ونوابه سينجحون حيث فشل أو لم يحاول الحاكم السابق رياض سلامة، في ممارسة الضغط على السلطة السياسية لوضع العملية الإصلاحية على السكة وقطع الطريق أمام المخالفات المرتكبة في حق القوانين ولا سيما قانون النقد والتسليف. حتى لو كانت النتيجة هي عينها بتشريع أو من دون تشريع لجهة مد اليد إلى الاحتياط الإلزامي أو ما بقي عملياً من أموال المودعين. لكن هذا الانطباع ما لبث أن تلاشى بعدما وقع ضحيّة تقاذف المسؤولية بين حكومة تتلطى وراء صلاحياتها المحدودة المقتصرة على تصريف أعمال ومجلس نيابي بحالة هيئة ناخبة يلجأ الى التشريع بإجازة من المجلس الدستوري تحت عنوان تشريع الضرورة. ما يجعل السؤال مبرّراً حول الجهة التي ستتولى التشريع بعد السجال غير المباشر الأخير بين رئيسي المجلس نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي الذي رحّل قانون الإقراض بعدما تعذر إقراره كمشروع قانون في الحكومة، وتمنع رئيس المجلس عن الموافقة عليه وفق صيغة اقتراح قانون، كما أفادت أوساطه التي أكدت لـ”النهار” أن رئيس المجلس ليس في وارد القبول باقتراح قانون وأن على الحكومة أن تتحمّل مسؤولياتها في هذا الشأن، خصوصاً أنها في صدد درس مشروع قانون موازنة ٢٠٢٣ وتحتاج حكماً لتحديد مصادر تمويلها، وإن كانت من الإيرادات والجباية أو من الاقتراض من المصرف المركزي.

عند هذا الحد، توقف النقاش في انتظار إيجاد الحل العملي الذي يحول دون ذهاب نواب الحاكم الى تنفيذ تهديدهم بوقف تمويل الدولة بنهاية آب الجاري إن لم يتم إقرار القانون. فإلى أين تتجه الأمور، وأية انعكاسات سيرتبها قرار وقف التمويل إذا التزم المجلس المركزي بكلمته، ولم يتراجع عنها تحت وقع الضغوط السياسية؟

مصادر مطلعة في المصرف المركزي أكدت أن لجوء نواب الحاكم الى التهديد لم يكن عبثياً وإنما لمعرفتهم التامة أنه لا يمكن الأخذ بوعود السلطة من دون أن يجري الضغط عليها. وتقول إن الخطة التي قدّمها النواب ترمي الى تحريك العجلة الإصلاحية، خصوصاً أن الحكومة في صدد درس وإقرار مشروع موازنة السنة، وستبدأ درس مشروع موازنة السنة المقبلة في تشرين الأول المقبل إذا تم الالتزام بالمهل الدستورية. وهذا المشروع يحب أن يكون اللبنة الأولى للعملية الإصلاحية بحيث تتمكن الدولة الفاسدة من أن تصلح نفسها وترسي القوانين الإصلاحية التي تتيح إعادة تحريك عجلة الاقتصاد واستعادة الثقة وضخ الأموال فيه.

تقول المصادر إن خطة نواب الحاكم تشكل الفرصة الأخيرة وتنتهي بنهاية هذا الشهر، فإن استجابت السلطة السياسية وأقرت القوانين المطلوبة وفي مقدمها عقد الإقراض والكابيتال كونترول ومشروع الموازنة العامة، وإلا فإن البلاد تتجه نحو الفوضى العارمة، عندما يتوقف صرف رواتب القطاع العام والأسلاك العسكرية، أو يتوقف استيراد الأدوية ودفع حاجات المؤسسات العسكرية والأمنية. ولا تستبعد المصادر الوصول الى هذه المرحلة، ولا سيما أن اتجاه المركزي ينحو نحو دفع الرواتب بالعملة اللبنانية لا بالدولار.

تكشف المصادر عن حاجة الدولة الى ما لا يقل عن ١٥٠ الى ٢٩٩ مليون دولار شهرياً، لتغطية الرواتب وحاجات الجيش وقوى الأمن واستيراد الأدوية وغيرها.

يبدي نواب الحاكم استعداداً للمخاطرة بإقراض الدولة هذه المستحقات لشهر واحد فقط هو شهر آب الجاري إذا أقرّ عقد الإقراض، وإذا أبدت السلطات حسن نيّة حيال إقرار قانوني الموازنة والكابيتال كونترول، وإلا فإن كل شيء سيتوقف وسيكون على هذه السلطة البحث في مواردها لتغطية تمويلها.

يتمسّك نواب الحاكم بقانوني الكابيتال كونترول والموازنة العامة نظراً الى ما يرتبه إقرارهما من انعكاسات إيجابية. فالكابيتال كونترول سيسمح للسلطات المالية والنقدية بالسيطرة على الكتلة النقدية بالليرة وعلى حركة الدولار في السوق على نحو يعيد ضخها في الداخل ويحول دون تحويلها الى الخارج. أما مشروع الموازنة فسيحدّد للحكومة حجم الإيرادات المرتقب تحقيقها، بما يتيح احتساب الإنفاق لتغطية القروض الخارجية.

يدرك الحاكم الجديد ونوابه أنهم يخوضون مفاوضات قاسية على ما يقولون، لكنهم مقتنعون بأنهم إن لم يلجأوا الى هذا الضغط فلن يتمكنوا من ضبط الإقراض للدولة والإنفاق غير المنظم وغير المنتج. لذلك جاء اقتراح عقد الإقراض مشروطاً بالإصلاحات ليعطي الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلد، وإلا فلتتحمّل قوى السلطة مسؤولياتها أمام الارتطام الكبير!

سابين عويس – النهار

Leave A Reply